عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 16-09-2006, 10:47 AM
السيد عبد الرازق السيد عبد الرازق غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 1,254
إفتراضي

موســم الهـجرة إلـى الـشمال
د. كريم الوائلي

يلتقي الشرق بالغرب وتتأزم حدة اللقاء فتتولد مشكلة ، ويعود هذا إلى ظروف وتراث ومواقف .. يختلف فيها الشرق عن الغرب ولم يكن اللقاء مجرد ذهاب شرقي يقطن في الغرب مدة من الزمن ، ليعيش المشكلة وحده مهما كان عنفوانها ، بل هو صراع الحضارات بما تحمله من فكر معاصر وتراث . وما تتسم به الحضارتان الشرقية والغربية من خصائص قديمة ضاربة الجذر في التاريخ ، وحديثه هي نتاج العصر الحديث .
ولا يمثل الشرقي نفسه باصطدامه بالحضارة الأوربية ، بل إنّه يمثل جيلاً ... يمثل أمةً .. ويطرح الروائي علاجاً لهذه المشكلة لأنها لا تمثل مشكلة الفرد ، وإنْ كانت في ظاهرها مشكلة أفراد .. فتكون معالجته أصيلة أو باهية .
ومسرحية (( عطيل )) لشكسبير تمثل لقاءاً حضارياً حاداً . ورواية (( القريب )) لكامو تمثل لقاءاً آخر .. وطرحت الرواية العربية أبعاد المشكلة ووضعت العلاجات لها في مجموعة من النتاجات الروائية .. (( أديب )) لطه حسين ، و (( عصفور من الشرق )) لتوفيق الحكيم ، و (( قنديل أم هاشم )) ليحيى حقي ، و (( الحي اللاتيني )) لسهيل ادريس .. ولكل رواية من هذه الروايات موقف من اللقاء ومعالجة للمشكلة من رؤية خاصة محددة . أراد الروائي ابراز مشكللته والخروج بالحل .
ونلتقي بمواقف هشّة وعرض للقاء ساذج في بعض هذه الروايات ، غير أنّ (( موسم آلهجرة إلى الشمال )) تضع الناقد والقاريء على محك صعب المشكلة ، وطبيعة تناولها .. وما فيها من رموز وأداء فنّي .
و (( موسم الهجرة إلى الشمال )) تمثل أزمة حضارية معاصرة . أزمة اللقاء الحضاري بما يحمله من عنف وتشنج ، وتعرض ممثلين لهذه الأزمة يتفاوتون في المواقف ، ويختلفون في الأفكار ، ويمثلون أجيالاًوأمماً وحضارات ، وتطرح الرواية علاجا لهذه الأزمة ، ولفهم هذه كله لابدّ من تتبع حركة الأجيال المتعاقبة التي تعيش الصراع وهي :
جيل ما قبل الحرب الذي يمثله : جد الراوي ومسترروبنسن وزوجته اليزابيث وأم مصطفى سعيد .
وجيل الحرب والعنف الذي يمثله : مصطفى سعيد وجين مورس وآن همند وشيلا غرينود وايزابيلا سيمور وأخيرحسنة بنت محمود .
وجيل ما بعد الحرب الذي يمثله : الراوي ومحجوب .
ولكل جيل من هذه الأجيال موقف فكري تمثله طبيعة المرحلة ، الثقافة والظروف التي تفرض نفسها في تحديد الموقف ..يضاف إلى كل هذا فهم كل جيل لحركة التاريخ وسيره الحثيث .
وجيل ما قبل الحرب يمثلانه أثنان من السودان أم مصطفى سعيد وجد الراوي ، وأم مصطفى سعيد قناع مكثف غامض ..ورغم هذا فهي تمثل العنصر الطيب في البيئة السودانية والعربية ، وتمثل المرأة التي تعيش في بيئة فرضت عليها ظروف معينة أن تكون بهذه الصورة .. ولكنها تحمل في أعماقها صلة وثيقة بالأرض والبيئة والتراث .. وإنْ كانت نظرتها مشوشة وغير محددة المعالم ، وهذا عائد بطبيعة الحال لما يعانيه المجتمع من حرمان ثقافي وفكري محدد لم يفسح المجال لها من تفجير طاقاتها . والجد .. جد الراوي يسير في الإطار الضيق نفسه الذي سارت فيه أم مصطفى سعيد طيبة ونقاوة وصفاء ، والجد لم يكشف غوامض الحياة ، ولم يحدد أفكاره في ضوء حركتها وحركة التاريخ ، وهو وأم مصطفى سعيد يحددان موقفاً أصيلاً إنطلاقاً من إحساس فطري ونظرة حدسية لم تكن قائمة على وعي ودراسة وموقف فكري واضح ورقيق .. ولذلك لم يقعا فيما وقع جيل الحرب ، والجد يعرف السر الذي سقط فيه جيل الحرب ، ولكنه لا يستطيع تحديد ما هيته ، ولا يقوى على تحديد أبعاده الفكرية . غير أنّ الحياة السهلة التي عاشها الجد دون أن تعصف بها مظاهر الحياة والصراع النفسي الخانق إزاء اللقاء الحضاري بعد قطع الجذر بالتراث (( فالشجرة تنمو وجدك عاش ويموت ببساطة )) وإنّ جد الراوي لا يحدد ماهية الشيء الذي وقع فيه جيل الحرب ولكنه عاش فيه (( انه يحمل رائحة فريدة هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ... ورائحة الطفل الرضيع )) .
ومستر روبنسن وزوجته نموذج آخر يمثلان جيل ما قبل الحرب ، ولكنهما من أوربا .. وسعيا للتقارب بين الحضارات ، وكان موقفهما محدد بوعي ونضج . ولم يأتيا للشرق للتهديم والاستغلال بقدرما سعيا للانتقال من الشرق بما يحمله من سحر ونقاوة وعمدا إلى التراث الذي عاش عليه الشرق ردحا طويلاً من الزمن لاكتشاف مواطن قوة حضارات الشرق واحتضنا الجيل الجديد ، ورعياة برقة وحنان خشية الضياع ، غير أن الجيل الجديد كان يفكر بأبعاد مادية فيها الجنس ، وفيها الطمع ، ولا يعرف سر اهتمام الجيل السابق به ، بل إنّه يعجب من ذلك .
واهتمام جيل ما قبل الحرب بالجيل اللاحق متأت من خشية الضياع لهذا الجيل الذي بدأت بوادر العنف تعصف به ، ويبدو أنّ جيل ما قبل الحرب يتحسّس أثر الحرب وما تتركه من بصمات قاسية على الأجيال . لأنه ليس من المنطق أن ترجع ملايين الجنود من الحرب الطاحنة التي شاركت فيها فتعود ألى حالتها الطبيعية دون أن تترك آثارها العنيفة على المجتمعات التي تحل فيها ، ولكن المنطق أن تترك هذه الجيوش آثارها السلبية .. تأثيرا عنيفا ذ... مباشرا مرة ، وغير مباشر يسري بهدوء في أوصال المجتمع مرة أخرى ، ولذا ولدت هذه الملايين في المجتمع الأوربي موجة عنيفة صارخة هي أول ردود الفعل للحرب وآثارها في المجتمع ، ومصطفى سعيد يذهب إلى أوربا وهي خارجة لتوّها من وطأة الحرب فيتم اللقاء العنيف الحاد بين قيم الحضارة الأوربية التي أنهكتها الحرب وقيم مصطفى سعيد الشرقية ومشاكله وغربته فضلا عن الوعي الجماعي المخزون في إعماقه .
إن مصطفى سعيد لم يعرف الاستقرار في حياته ، ولم يكن اضطرابه طارئاً على شخصيته ، بل هو صفة متأصلة في أعماقه لأنه يعيش غربة داخلية عنيفة كانت سببا في توليد كل هذا الحب العنيف للتطواف في العالم ، وهذه الغربة الداخلية صيّرته فردا غامضا شاذاً أينما حلت به الرحال ، حتى في بلده السودان . بل وفي عمق السودان في قرية . ولكنه في أوربا التي عاش غربة خارجية فرضتها عليه ظروف البيئة وطبيعتها والظروف الاجتماعية ولم يستطيع مصطفى سعيد التأقلم حتى في بلده السودان ، وقد رفد الغربتين الداخلية والخارجية روافد أخر بالغة الأثر في شخصية مصطفى سعيد أبرازها مشكلة اللون التي مسّها الطيب صالح مسا خفيفا ، ولكن كان لها أثر فاعل في حدّة الموقف وعنفه (( إذا جاءت أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي ، فسيحس حتما انّ العالم ينهار تحت رجليه )) (( أمّي ستجن وأبي سيقتلني إذا علما أنني أحب رجلاً أسود )) ولم تكن مشكلة اللون السبب المباشر في تفجير اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب بل إنّ حدة اللقاء متمثلة بالمستعمر الأوربي المسيطر على السودان والعالم العربي ، ومصطفى سعيد بوضوح في محاكمته (( صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، وقعقعة سنابل خيل اللبنى وهي تطأ القدس . البواخر مخرت عرض البحر أو النيل أول مرة تحمل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود ، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول (( نعم )) بلغتهم إنّهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر )) .وهذا يعني أنّ الاسّتعمار قديم منذ الرومان ، وأن الاستعمار الحديث يدعي التمدن والتحضّر ولكنه لغاية معينة . والطمع أساس في لقاء الغرب بالشرق .. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع .. لا الخير !! .
كان مصطفى سعيد يبث جرثومة في النساء الأوربيات ، فتموت المرأة أو تنتحر ، ولكنه في المرة الأخيرة مع (( جين مورس )) يأخذ طابعا جديداً حيث يأخذ سلاحه ليقتل ويتلذّذ منتقما ، والانتقام بعدً بارز في المحاولة ، لأن مصطفى سعيد يشعر في أعماقه أنه يعيش حرباً صروساً مع خصومه وأعدائه الذين سيطروا على أرضه ، واستغلوا ثمارها ، وتركوا أبناءها يعيشون في حالة من الضياع . ولذلك تتضح علاقة مصطفى سعيد بـ (( جين مورس )) بهذه الأبعاد ، ألا انهّا لا تخلو من حالات مرضيّة شاذة ، فعلاقته بها شاذة ، وهي لا تقل عنه شذوذاً، إنّ الصراع الحضاري بين الشرق والغرب يمثل في هذا الجيل مثلاً العنف . وهناك تقارب بين مصطفى سعيد و (( ميرسو )) بطل رواية (( الغريب )) لالبير كامو . إنّ (( ميرسو )) يقتل العربي الأفريقي لأنّ الأخير حمل المدية التي تمثل بوادر النهوض عند العرب ، وأنّ المدية تحرك في لا وعي الأوربيين السلاح .. القوة .. الفكر .. الذي دحرت به أوربا من قبل . وغريب البير كامو جاء غازياً الشرق ، ومصطفى سعيد غريب آخر يذهب إلى أوربا ، ويحمل سكيناً ويقتل . الفرق انّ هناك لقاءاً حضارياً من وجهة نظر غريبة ، وهنا لقاء حضاري من وجهة نظر عربية شرقية .. مصطفى سعيد قبّل السكين ولثمها لأنها تمثل السلاح الذي رافق مسيرة العرب في إنتضارتهم وحروبهم .. في عزّهم ومجدهم ، ولذا أحسّ الروائي انّ الشرق سينهض من خلال مصطفى سعيد .. فأعطاه سلاحاً ودعاه لغزو أوربا لإحداث الاخصاب والتلاقح الحضاري والقتل ..وهو يشير من جهة أخرى إلى شدة العنف في جيل الحرب الذي تركت الحرب بصماتها عليه .
وسعى الطيب صالح إلى توظيف (( جين مورس )) توظيفاً حضارياً .فهي تمثل الحضارة الأوربية بما تحمله من تشنّج وعنف وشذوذ . وتتأزم أجيال الحرب في الصراع بين الحضارات ـ نفسياً وفكرياً وسلوكياً ، ويصل الصراع حدّاً من العنف ، إلى درجة الخلاص من الخصم بالقتل (( وصرخت فيها : أنا أكرهك أقسم أنني سأقتلك يوماً ما )) وهي لا تقل عنه خطورة وشذوذاً (( أنا أيضاً أكرهك حتى الموت ))
إنّ (( جين مورس )) تمثل الهلاك لمصطفى سعيد ، والالتحام الحضاري بين الشرق والغرب ، عند أجيال الحرب ، يعني الدّمار النهائي لكليهما . غير أنّ هذا الدمار ممزوج بنشوة ولذة منحرفة خطيرة . أثارتها كوامن عديدة .. منها الضارب الجذر في التاريخ .. ومنها وليد العصر والحضارة الحديثة والحرب .. (( أخرجت السكين من غمده ، جلست على حافة .. السرير أنظر إليها ، نظرت في عينيها فنظرت في عينيّ .. وتماسكت نظراتنا واشتبكت ، فكأننا فلكان اشتبكا في ساعة نحس ))
هذا اللقاء الحضاري لقاء دموي حاد عنيف ، ومصطفى سعيد يتنبه إلى أهمية السلاح ، السكين التي يقبلها ، وهي رغبة لا شعورية في العودة إلى السيف الذي كان وما زال رمزاً للقوة .. واللقاء بين الحضارتين سبقته لحضات تألّم . ثم كان اللقاء الدموي العنيف . اعترف كل منهما بحبه للآخر ، واجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في نقطة واحدة .
__________________
السيد عبد الرازق
الرد مع إقتباس