عرض مشاركة مفردة
  #392  
قديم 23-05-2007, 03:16 AM
النسري النسري غير متصل
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2004
الإقامة: الأردن
المشاركات: 2,917
إرسال رسالة عبر ICQ إلى النسري
Smile عَبـــرة وعِبــــــرة

عَبـرة وعِبـرة



ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئا، فلبث فيها بضع سنين، ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيء.

كنت أرى (والحديث لصاحبه) أن هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغا لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تتطاير ذراتها في أجواء السماء، فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق رجاء لغده المنتظر، محتملا في سبيل ذلك حمقه وفساد تصوراته وغرابة أطواره، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي.. ومصيبة المصائب، فكانت آخر عهدي به.

دخلت عليه فرأيته واجماً مكتئباً، فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء، فسألته ما باله
فقال: مازلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري فيه.
قلت: وأي امرأة تريد؟
قال: تلك التي يسميها الناس زوجتي، وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي. قلت: إنك كثير الآمال، فعن أي آمالك تتحدث؟ قال: ليس لي في الحياة إلا أمل واحد هو أن أغمض عيني ثم أفتحهما فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد.
قلت: ذلك ما لا تملكه ولا رأي لك فيه.
قال: إن في الناس من يرى في الحجاب رأيي، ويتمنى في أمره ما أتمنى، ولا يحول بينه وبين نزعه عن وجه زوجته وإبرازها إلى الرجال تجالسهم كما تجالس النساء إلا العجز والضعف، فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناءّ القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً، وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية، فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرَته وأعظمته, ولا خجل هناك ولا حياء، ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن، فلا بد لي أن أبلغ أمنيتي، وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه!.. فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً، ونظرت إليه نظرة الراحم الراثي
وقلت: أعالمٌ أنت أيها الصديق ما تقول؟
قال: نعم أقول الحقيقة .
قلت: هل تأذن لي أن أقول لك إنك عشتَ فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلتَ ما تطمح فيه من حيث لا يشعر مالكه؟
قال: ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟
قلت: أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلمّ به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك.
قال: إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع .
قلت له: تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان, فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها، والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقعٌ كَدِر. والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها، وقلّما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة.
قال: أتنكر وجود العفة بين الناس؟
قلت: لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة، ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه.
في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم؟
أفي جو المتعلمين، وفيهم من سئل مرة: لِم لَمْ يتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعاً نسائي.
أم في جو الطلبة، وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه خجلا إن خلت محفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته، أو أقفرت من رسائل الحب والغرام؟
وبعد، فما هذا الولع بقصة المرأة، والتمطّق بحديثها، والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها، وحريتها وأسرها، كأنما قد قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم، فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم؟!..
هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم، فإن عجزتم عن الرجال، فأنتم عن النساء أعجز.
أبواب الفخر أمامكم كثيرة، فاطرقوا أيها شئتم، ودعوا هذا الباب موصداً، فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً.. وشقاء طويلا.
أروني رجلا واحدا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها، فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه.
إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندها ما لا تعرفونه عند أنفسكم، فأنتم تخاطرون بها في معركة أحسبكم إلا خاسرين.
ما شكت المرأة إليكم ظلما، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فما دخولكم بينها وبين نفسها؟ وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟!..
إنكم لا ترثون لها، بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها، بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرّجاً وسفورا، ويتدفق خلاعة واستهتارا، وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك.
لقد كنا، وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء، فما زلتم به تثقبون في جوانبه، كل يوم ثقبا، والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرّش، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلّوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة.
عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما.
وكانت تفهم معنى الحب، وتجهل معنى الغرام، فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج، رأت هي أن الزواج أساس الحب. فقلتم لها إنَّ هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك، ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلاحق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها، وتمرّدت على زوجها، وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة، مناحة قائمة، لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها .
وقلتم لها لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك، فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة، ثم الشقاء الطويل بعد ذلك، والعذاب الأليم.
قلتم لها إن الحب أساس الزواج فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة، حتى شغلها الحب عن الزواج فعنيت به عنه.
وقلتم لها إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزواج غير العشيق، فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم.. فلا قديما استبقت ولا جديداً أفادت .
وقلتم لها لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك، والقيام على شؤون بيتك، فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها، والقيام على شؤون بيتها.
وقلتم لها نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها، ويلائم ذوقُها ذوقَنا، وشعورُها شعورَنا، فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهج أنظاركم، لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم، صفحة صفحة، فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات، والضاحكات اللاعبات، والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن، فتخلعت، واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف، تعرض نفسها عليكم عرضاً، كما تُعرض الأَمَةُ في سوق الرقيق، فأعرضتم عنها ونَبَوتُم بها، وقلتم لها:
- إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات، إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة، وقد أباها الخليع، وتَرَفَّع عنها المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت.
وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة وتمشّت الظنون بين رجالها ونسائها، فتعاجز الفريقان، وأظلم الفضاء بينهما، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين، ونساءً عانسات.

ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون.. وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها!..
نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم، فليهذبها أبوها أو أخوها، فالتهذيب أنفع لها من العلم، وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم، فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عِشرَةَ نسائهم. وإلى النور والهواء تبرز إليهما، وتتمتع فيهما بنعمة الحياة، فليأذن لها أولياؤها بذلك، وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها، كما يرافق الشاةَ راعيها، خوفاً عليها من الذئاب، فإن عجزنا عن أن نأخذ الآباء والأخوة والأزواج بذلك، فلننفض أيدينا من الأمّة جميعها نسائها ورجالها، فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها.

أعجب ما أعجب له في شؤونكم أنكم تعلمتم كل شيء، إلا شيئاً واحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء، وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها، ولكل نبات زمناً ينمو فيه.
رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها، فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء.
ورأيتم الزوج الأوروبي الذي أطفأت البيئة غيرته.. وأزالت خشونة نفسه وحُرْشَتَهَا، يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخلو بمن تشاء، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتلبد. فأردتم الرجل الشرقي الغيور الملتهب أن يقف موقفه، ويستمسك استمساكه!..

وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن أختلف إلى بيتك بعد اليوم ثم انصرفت.. وكان هذا فراق ما بيني وبينه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله، وأن بيته أصبح مغشياً، لا تزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة، لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المذال، أو الحزن على الصديق المفقود!..مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها، ولا يزورني .

يتبـــــــــــــع
__________________