عرض مشاركة مفردة
  #17  
قديم 17-12-2006, 04:30 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الدولة المُنمِية ضد التنمية :

صحيح أن بلدان العالم الثالث لم تكن ذات تراث صناعي كبير، لكنها لم تكن خالية من إمكانيات الانطلاق واللحاق بالأمم المتقدمة، فروح المبادرة والانضباط والجلد في الأداء كان منتشرا بين طبقات الفلاحين، وكان التجار البسطاء وحتى الكبار يملكون مهارات تجعلهم قادرين على إنجاز أعمالهم بشكل حسن ..

لكن الاستعمار الحديث زرع ثقافة غريبة في المناطق التي استعمرها، قوامها (كل شيء للدولة). فقد عطلت الدولة في العالم الثالث نفسها منذ ولادتها حين أخذت تراقب كل مستويات آليات تشكُل الثروة وتسييرها، وحين نصبت نفسها مقام رجل الأعمال، دون أن تترك للفئات الاجتماعية فرصة للمشاركة في التنافس الاقتصادي. فشلَت الدولة النامية دورها الطبيعي كأداة رئيسة لحداثة اقتصادية يقع على كاهلها تنسيقها وتأطيرها، فعادت الدولة بذلك مجددا الى الدولة الوراثية المانحة للوظائف العامة مقابل دفع الأموال من قبل الرعايا.

من هنا حدث تشتيت وتشويه للحالة الاقتصادية التي سبقت الدولة النامية الحديثة، فتمزق القطاع الفلاحي وتناثرت أشلاء القطاع الحرفي، واستنفرت التضامنات الإثنية والدينية والقبلية والإقليمية استنفارا مكتوما أو معلنا للقيام بالهجوم على الحصن الوحيد للسلطة الحديثة، الدولة، هذا الجهاز الذي من خلاله يمكن التسلط على كل شيء .

وقد تكونت علاقة بين الدول النامية والدول المتطورة، كانت فيها الدولة النامية تحصل على تقنيات وقروض معينة، تذهب لمؤسسات الدولة ضمن شروط تضمن بها الدول المتطورة حقوقها ومكاسبها المستقبلية، في حين لن يستطيع الأفراد أو الشركات في الدول النامية الحصول على أي قرض دون ضمانات من دولتهم أو بنوكها الرسمية ..

ورافق هذا الواقع المشوَه فرض رسوم وضرائب بشكل مرتبك في دول العالم الثالث، فبين إعفاء تام لاستيراد مواد وأجهزة يعاد استغلال تلك الميزة من قِبل مَن يحيط بالدولة، أو من رجال الدولة بشكل يحتال على تلك الصيغة. وأحيانا تفرض جمارك على بعض السلع بشكل كبير جدا، وقد وجد أن بعض الدول النامية تضع ضعف ثمن أو كلفة السيارة اليابانية أو الأوروبية ليدفعها صنف من المواطنين في حين يُعفى منها من يحيط بالحكم تحت مسميات مختلفة.

إن هذا الواقع المختل والذي اقترن بفساد كبير جعل الناس لا يؤمنون بدورهم الضريبي ولا يؤدون ما عليهم من استحقاقات ضريبية، وهم يرون أبناء المحيطين بالدولة يتمتعون في بعثات دراسية وإعفاءات من كل شيء، ويرون الطرق والكهرباء والماء تصل الى بعض المحسوبين على نظم الحكم بيسر ولمسافات طويلة، وهم يُحرمون من تلك الخصائص، فلماذا يلتزمون بما عليهم من ضرائب ؟

ظهور الفساد وتوسع الأسواق السوداء خارج أوروبا:

عند وصول معلومات عن أشخاص لهم مهارات في الوساطة الدولية، بين قطاعات صناعية وتجارية عالمية، لرجال الحكم وخصوصا من هم في أضيق دائرة تعتلي مواقع الحكم، فإن رجال الحكم سيقربون هؤلاء منهم ويعتمدونهم كخبراء في تمرير الصفقات وأخذ العمولات، وإحالة العطاءات الوهمية أو الحقيقية بأسعار خرافية ومبالغ بها، فإن ثراء سيكون فاحشا لرجال الحكم ووسطائهم الذين تتجنبهم أجهزة الدولة من المساءلة. ولكن سيجعل هذا الجو الفاسد الفرص مفتوحة أمام أجهزة الدولة من مدير عام الجمارك الى أصغر فرد على نقاط الحدود في أخذ ما يستطيع أخذه على حساب أموال خزينة الدولة، طالما أن رأس البلاد هو من سن تلك السنة.. وتستشري تلك الظاهرة في كل دوائر الدولة التي تخمن في النهاية ما يجب قبضه من المواطن أو من له معاملة فتجد تلك الظاهرة بدوائر العقارات والأراضي و المرور وترخيص الأبنية، الى كل مفصل هام أو متدني من مفاصل الدولة.

الفساد في معاكسة قوانين السوق

كما هو ملاحظ فإن الفساد ليس انحرافا اقتصاديا غير منطقي فحسب، فهو خلافا لذلك في دول العالم الثالث، ردٌ اقتصادي عقلاني على محيط اجتماعي ـ اقتصادي مجردٌ من منطق ومن قواعد اقتصادية واضحة.. إذ أنه في أجواء كهذه تنمو نزعة الاستهلاك لكل ما هو حديث وعصري ومتميز، وهذا يحتاج الى نقد ومال لإشباع تلك النزعة المتصاعدة بنموها المنحرف، وطالما موجود الإذن بالانحراف سواء بالتصريح الواضح أو بالاقتداء بمن هم في أعلى المواقع، فسيكون هناك تنافس من أجل احتلال مواقع في سلم الفساد.. وستظهر عبارات تعطي مسحة مبرَرة لمثل ذلك السلوك ف ( فلان دبَر حاله) و (فلان شاطر).

إن هذا بالتأكيد سيقود الى اختلال في أسعار الصرف للعملة المحلية، عندما تحصر الدولة عملية تبادل العملات وتبقي على سعر الصرف لعملتها عاليا، ولا تأذن بحرية تبادل العملات، فسيظهر تجار وسوق سوداء للعملة في البلاد وتدخل البلاد في أعراض جديدة لمرض آخر.

الاتجار بالنفوذ على الصعيد العالمي :

تكونت هذه الالتواءات من صعود نجم الشركات الصناعية والمصرفية الكبرى للتحكم في إدارة شؤون الدول الكبرى، فوضعت لوائح وقوانين لحماية انفرادها في السيطرة على أسواق العالم من حيث السلع والخدمات الاستشارية، والقروض وما يتعلق بها. ثم أنشأت أذرعا لحماية تلك القوانين وضعت مقدمات لتلك القوانين صيغا أدبية وأخلاقية مزيفة، كتلوث البيئة و ثقب الأوزون وحماية المستهلك، لكي تجعل ممن يتقدمون لتلك العطاءات غير قادرين على استكمال شروط تلك اللوائح ووضعت قانون التجارة العالمية و(أيزو) وغيرها .. وسهل علينا أن نكتشف مدى كذب وزيف تلك الإدعاءات .. فمن الذي يلوث العالم ومن الذي يرحل النفايات الضارة من تلك البلدان لغيرها من دول العالم الثالث ومن الذي يستخدم أسلحة قذرة تترك إشعاعاتها في العالم لفترات طويلة؟

ومع ذلك لم تنتبه دول العالم الثالث لتلك الصورة القاتمة، أو لعلها انتبهت ولكن لا حيلة لها في رفض ذلك، بل بالعكس ستجد نفسها فرحة تلك الدولة التي تقبل في حشرها في مثل تلك الاتفاقيات كمن يحضر مأدبة أقيمت ليس على شرفه!
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس