عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 29-09-2006, 06:11 AM
ليلى محمود البدوى ليلى محمود البدوى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2006
المشاركات: 10
إفتراضي


وقالت " نادية " بعذوبة :
ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..

وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..

ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..

وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..

وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .

ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .

وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..

وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..

وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..

وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..

ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..

ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته ..

كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..

وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..

***

وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..

ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .

وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .

ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .

***

وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..

وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..

وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..

وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..

وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..

وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..

فقلت معقبا :
ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..

وسلطت الكاميرا عليه ..
فسألت نادية :
ـ هل ستظهر الصورة ..؟
ـ أرجو هذا ..

وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..

وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..

وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :
ـ جميلة .. ؟ !
ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..

وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..

وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..

ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
ـ ولكنى سأحاول ..

وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..

وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..

وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .

وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..

كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..

فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..

وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..

وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟

وكنت أجيبها :
ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!

أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .

***

كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .

وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..

وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .

وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .

الرد مع إقتباس