عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 03-06-2006, 12:35 AM
محمد العاني محمد العاني غير متصل
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,514
إفتراضي

وهكذا يكتب الشعر

علي بن حسن العبادي


قرأت قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، المنشورة في جريدة الجزيرة، في يوم الخميس السادس من شهر رجب، سنة 1426ه، وهي قصيدة موفقة الروي، وعباراتها جيدة السبك، يتلألأ نسجها مع ما يريده الشاعر، والفاظها سلسلة، يرتفع إيقاعها فيطرب السامع، ويهز مشاعره.

والقصيدة بأبياتها، تشرق أحياناً، وتومض حتى لايخبو لها وميض، ولعل وقع الألم في نفس الشاعر من جراء فقد مليك البلاد، خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، (طيب الله ثراه) مازال يهلب أعصابه وأعصابنا، ويبعث الشجن في نفوسنا حين نقرأ أبيات قصيدته، بمواقفها المفجعة..وقصيدة الأستاذ أبي عبدالرحمن ابن عقيل، لاتخلو من الجمال الشعري، غير أنه لم يطو قصيدته على الأسرار، والوصف الذي لاتحديد له ولاوضوح، حيث أبقى على المعنى الذي يدور في خلده، وعمل مخيلته ممزوجة بأجمل مافي نفسه إلى ماضي مليكنا الملك فهد (رحمه الله) وأسكنه فسيح جناته، وإلى أمل كبير في المستقبل على يدي مليكنا الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (حفظه الله ورعاه وأطال في عمره) فجاءت القصيدة متعددة العواطف، بديعة المعاني، خصبة الجمال، وكان جمال معانيها أكبر مما أراد أن يقوله شاعرنا.

هذه مقدمة، يحتم علي الموقف أن أبدأ حديثي بها، قبل أن أتطرق إلى قصيدة أبي عبدالرحمن ابن عقيل، الأديب الأريب، العالم النحرير، الذي خلد بقصيدته هذه الشعر العمودي الأصيل، شعرنا العربي الخالد، الذي نقلته الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، حفاظاً على لغتنا الثرية (لغة الضاد)، لغة القرآن الكريم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

هذه اللغة العربية الشاعرة التي حافظ عليها شعراء الشعر العمودي الأصيل، منذ عصر امرىء القيس، حتى البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وحسين بن علي سرحان، وحمزة شحاتة، وغيرهم من الشعراء الكبار.

وتبّتْ يدا كل من جنى ويريد أن يجني على شعرنا العربي الأصيل، وقاتل الله من أخذ يعبث بتراثنا الخالد، ويعيث فيه فساداً، ويصف شعرنا العربي بالجمود والتخلف، حتى أخذ الكثير من أبنائنا، من أبناء الأرض الطاهرة التي نزل القرآن في ربوعها، يأتمرون بدعوتهم وينهجون نهجهم، ويغتربون عن تراث أمتهم ولغتها، ويسيئون إلى هذه اللغة العربية الخالدة، من نحو وصرف ولغة وعروض وبلاغة، لأنها علوم محنَّطة في رأيهم المأفون..وأجل شاعر في رأيهم العفن، هو الذي يقول : (أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة، أو صليباً من الذهب على صدر عذراء، تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى)...

وقد رأيت ناقداً يعيش بين ظهرانينا، يحمل الشهادة العالمية وإجازة التدريس في العلوم العربية، التي تسمى في عصرنا الحاضر، شهادة (الدكتوراه)، وهو ممن يعلّم أبناءنا في جامعتهم، وهذا الناقد مع حبي وتقديري واحترامي له، لأخلاقه التي يتمتع بها بين زملائه وتلامذته، واستقامته في خلقه ودينه.

إلا أنه أمر أحد الشبان الواعدين، ممن أراد أن يتمرد على تراثنا العربي، ويقلد التراث الأوروبي، وهذا الشاب وغيره من الشبان، يريدون أن يقتحموا منابر الأندية الأدبية الثقافية، وغيرها من الصروح العلمية، بأدبهم الغث، وشعرهم المريض الذي أدى إلى كوارث في النحو والصرف واللغة والعروض.

وقد أخذ هذا الناقد الأكاديمي الذي أُحبه ويحبه من عرف أخلاقه وأمانته، بيد أحدهم، وأمره أن يرقى منبراً من منابر إحدى الجمعيات الثقافية، لينشد بملء فمه أمام الجمهور ويقولأذكر حين كان يباغتني الفجر، أصحو، كئيباً، مثقلاً بالطريق الذي سوف أحمله على ظهري..أذكر أن العصافير كانت تغرد من الشنطة المدرسية، في صباح الإجازة يوم الخميس، أذكر أن الطريق إلى المدرسة كان يرفل بالأغنيات، ولكن لم أكن لأراها، لأن عيوني مثقلة بالنعاس..الان أذكر جيداً وهي تغسلني بغبار الطباشير، وأنا غارق في البياض).
ويستمر في هذا الكلام الذي يحتاج إلى صياغة جديدة، تُصلح ما جاء فيه من أخطاء في اللغة، لغتنا العربية، إلى أن يختتم كلامه بقوله: (كالسماء تدق نواقيسها، ليعود الرعاة إلى مخبأ في الجبال، فلا ينظرون إلى ما تدس من الماء في باطن الأرض).

أرأيتم مثل هذا الكلام المبتذل، يتلى على جمهور من الناس، وينال منهم التصفيق، حتى تحمر أكفهم، فيعتقد أبو الكلام المبتذل الذي اقتحم المنبر، أن الشهرة تؤخذ بالطبل البلدي..وانظر الصفحتين : 377 و 378من كتابي (ماهكذا يكتب الشعر).

وكلام هذا الشاب الذي سماه شعراً، يبدو لي من كلامه أنه قد تأثر بقصيدة للشاعر الهندي الكبير(طاغور)، فسلخها بعد أن أزال بعض كلماتها، وأحل مكانها أخرى مرادفة لها في المعنى.

يقول طاغور كنت أسير بجانب الطريق لا أدري لماذا أسير هناك، عندما مر الظهر، هفهفت فروع الخيزران وسط الريح)..إلى أن يقول إن الظلال تزداد سواداً، والماشية تعدو لمرابضها، والضوء شاحب فوق المروج المنفردة، والقرويون ينظرون إلى القارب على الشاطئ)..وانظر ديوان الشاعر الهندي (طاغور)، ترجمة الأستاذ لطفي شلش..

وقصيدة الشاعر الهندي الكبير(طاغور)، قرأناها مترجمة عن اللغة الهندية، ولو قرأناها بلغتها الهندية أو الفارسية، لأخذنا نرددها لجمالها وروعتها، لأن الهنود والفرس يكتبون أشعارهم بلغتهم في أوزان لها إيقاعها وجرسها، وهم يحترمون أوزان شعرهم، وينادون بها..

وقد سمعت بعضها من أستاذنا محمد سليم (رحمه الله) مدير المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، بحضور شيخي وأستاذي أبي زهير أحمد علي أسد الكاظمي الحسيني..وكنت أسمع منه عرائس القصائد الهندية والفارسية، التي ترتاح إليها النفوس، فتقبل إليها الآذان مصغية، لأسرار جمالها، وتألق معانيها، وسمو ألفاظها..

وأريد أن أهمس في آذان أبنائي الأكاديميين، من حملة (الدكتوراه) :أن المنبتّ لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى، وليس من الإنصاف في شيء أن ننادي بتقليد الشعر الغربي، وأن نهجر شعرنا العربي الأصيل، ونهون من شأنه، فبعض شعرائنا المعاصرين بله شعراء العرب الأقدمين، كان نصيبهم من الخلود أوفى من نصيب كثير من أدباء الغرب، لو كنتم تعلمون.

والكلام عن هذه الظاهرة الذي أخذ يروج لها أساتذة يعلمون أبناءنا، ويريدون أن يقتحموا بتلامذتهم منابر الأندية الأدبية، ويزحزحون عنها شيوخ الأدب الذين يسعون إلى إحياء القديم من أدبنا الخالد، وبعث نفائسه، ويتخذونه صُوى يهتدى بها، ودليلاً في معارجها إلى النمو والرقي، ويبنون الشعر الحديث على أركان الشعر القديم، ويأخذون من الشعر الغربي المعاصر ما يتلاءم مع تراثنا، في قوالب من بلاغتنا وقوافينا وأوزاننا ونحونا وصرفنا التي مرت عليها العصور، وهي حيث هي ومازالت قوة وجدة وكمالاً وسمواً وارتفاعاً..

يُتبع...
الرد مع إقتباس