عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 01-10-2003, 03:31 AM
علي علي2 علي علي2 غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2003
المشاركات: 156
إفتراضي المرأة في معركة اليرموك

و للمرأة دور نضالي فـي معركة اليرموك ـــ د.محمود الربداوي*

فـي البدء لا يملك المرء إلا أن يبدي إعجابه بالجهود العظيمة التي بذلها (الجنرال أكرم) الضابط المدرِّب المؤرخ في كلية الأركان الباكستانية (كلية كويتا) الذي ألف كتابه (خالد بن الوليد: سيف الإسلام) وترجمه إلى العربية العميد الركن صبحي الجابي، فعندما شعر
الجنرال أكرم بأن في التاريخ الإسلامي إنجازات عسكرية عظيمة، ومعارك قامت بها جيوش المسلمين، وقادة كانوا موهوبين في إدارة استراتيجية الحروب، ووجد أن إنجازات هؤلاء القادة ما زالت صورتها الحقيقية المتألقة لم تعطَ حقّها من البحث الجاد، أخذ على عاتقه أن يوقف محاضراته في كلية الأركان، وأن يرحل إلى البلاد العربية التي كانت ميدان الحملات المظفرة التي أنجزها قادة غيَّروا وجه التاريخ بانتصاراتهم على القطبين الوحيدين الفرس والروم في عالم السياسة والحرب في القرون الوسطى، وهذه المنجزات التي حققوها هي التي أخرجت العرب من عصر الظلمات إلى عصر النور، وهي التي ننعم بالعيش على مكتسباتها الآن، بعد أن انتشر العرب خارج جزيرتهم، وملكوا أصقاع المعمورة وورثوا تركة حضارتين من أعظم الحضارات التي قامت في آسيا وأوروبا، غير أن الصورة الحقيقية لتحرك هذه الجيوش العربية وتفاصيل المعارك وجزئيات ميادين القتال لم يتضمنها كتاب عصري واحد، صادق المعلومة، مبرأ من الهوى و(الشوفونية) وإنما ما زالت هذه التفاصيل- وحريٌّ بجيل الألفية الثالثة أن يعرفها لكي لا ينقطع التواصل بين الماضي والحاضر استعداداً لانطلاقة المستقبل- أقول هذه التفاصيل ما زالت مغيبة، وما زالت دفينة متفرقة في بطون أسفار التاريخ والأدب، وهذا الذي حفز رجلاً غيوراً هو الجنرال أكرم أن يتجشم عناء الارتحال والبحث والتنقيب في الجزيرة العربية والعراق والأردن وبلاد الشام ليتقرى واحدة من مسيرات الأبطال العرب ممثلة بخالد بن الوليد. تتبع تحركات خالد من المدينة إلى اليمامة إلى القادسية إلى اليرموك، إلى دمشق، ثم استقر آخر أيامه في حمص حيث وافته منيته في مطلع العقد الثالث الهجري الذي مضى عليه أربعة عشر قرناً، فلكي لا ينسى الجيل الحاضر- بفعل مرور أربعة عشر قرناً- أمجاد تاريخه نكتب له هذه الصفحات. ولما كانت منجزات ابن الوليد لا تتسع لها الصفحات ولا المؤلفات لذلك سنقتصر على صورة جزئية من جزئيات اليرموك، ذات دلالة كبيرة تحفز الرجل والمرأة على أن يدرك أن هذه الأمة العربية العظيمة أمة ليست بعقيم، وإنما هي أمة ولود، مصداق ذلك هذه الصور (الاستشهادية) التي يُقدمها الشباب والشابات دفاعاً عن الأرض التي أورثهم إياها خالد وعمر، الأرض الحافلة بالمقدسات للمسلمين والنصارى.

لقد كتب عن خالد بن الوليد الكثير من المؤلفات، ولكن الكتابة عن أيام معركة (اليرموك Hieromax) قليلة نسبياً، وما كُتب عن تلك الأيام معاد مكرَّر، وبقيت هناك جوانب أخرى مغيّبة لم تتطرق إليها المؤلفات، وحتى موقع اليرموك من جغرافية الوطن العربي لا يعرفه الكثيرون من أبناء العرب، وعلى الرغم من موقع نهر اليرموك بين سورية والأردن إلا إن نسبة قليلة جداً جداً ممن يعرف، بالضبط، أين دارت رحى المعارك الفاصلة بين العرب والروم، وأين تركزت حركة الكر والفر بين الجيشين من ضفتَيْ الوادي الذي يبلغ طول تعرجاته وروافده من (الهرير والعلاّن والرقّاد) حوالي خمسين كيلومترا، وأين تقع من شط الوادي مخاضة (الياقوصة، أو الواقوصة) التي شهدت الموقف الحاسم من الانتحار القسري الذي تساقط فيه ما يقرب من أربعين ألفاً من فرسان الروم ورجّالتهم.

النقطة التي أراها جديرة بالبحث ولمّا تُبحث من قبل إلا لماماً تتمثل بالدور العظيم الذي قامت به نساء المسلمين في اليرموك، وهو دور مشرِّف على غاية من الأهمية، على الرغم من أن المراجع التاريخية مرّت عليه مروراً سريعاً، ولم تُوفِّه حقه من التحليل. والذين كتبوا عن هذه المعركة إما مؤرخ لا يعرف استراتيجية الحرب، وإما عسكري يعرف فنون الحرب ولكنه لا يعرف تاريخ نشوء الأمم والأحداث المفصلية التي تلعب دوراً بالغ الأهمية في تغيير الهويات الجغرافية وجنسيات الأعراق المسيطرة عليها.

تجمع المصادر على أن أول من فتح باب الحرب في اليرموك غلام حدَث من الأزد يرغب في الاستشهاد، فحمل على الروم وهو ينشد رجزاً، فقتل أربعة من جنود الروم، وقُتل في مبارزته للجندي الخامس، وعندها شدَّ الروم على المسلمين فكشفوا ميمنتهم، فتراجع المسلمون إلى التل المرتفع الذي ارتأى أبو سفيان على القائد العام أبي عبيدة أن تُخيّم نساء المسلمين فيه. فقال أبو عبيدة: نعم ما رأيت، فأمرهن بذلك، ففعلنَ وعلون على التل، وحصنَّ أنفسهن مع أولادهن، ومعهن الأولاد والأطفال. قال أبو عبيدة لهن: خذن بأيديكن أعمدة البيوت والخيام، واجعلنَ الحجارة بين أيديكن، وحرِّضن المؤمنين على القتال... فقالت النساء: أيها الأمير، أبشِر بما يسرك.([1]) وأن ينتشر الجيش الذي أصبح قائده العام خالد بن الوليد بين أذرعات ونهر الهرير([2])، وهذا التل المرتفع- بتقديري- هو أحد تلَّين لا ثالث لهما في هذه البقعة من سهل حوران: تل الأشعري الذي يقع في الضفة الشرقية لنهر اليرموك([3])، يمكّنه ارتفاعه من الإشراف على ضفتَيْ الوادي. ويطل على السهل الذي ينتشر فيه الجيشان، فيراقب حركتَيْ الكرّ والفر لإطلالته على السهل الذي فُرضت فيه المعركة، والتل الثاني تل الخمّان، وربما أشار أبو سفيان باختياره لتخييم النساء فيه؛ لأنه جاء في مشورته على المسلمين أن يجعلوا (أذرعات)([4]) وراء ظهورهم ليتمكن مخيَّم الجيش الإسلامي من سهولة التواصل مع دار الخلافة في المدينة لتسلُّم الإمدادات والبريد، وله خصوصية أخرى وهي عزل النساء والأولاد عن بؤرة المعركة ونقاط تحرك المتحاربين. وبالمناسبة، جديرٌ بي أن أذكر أن جيوش المسلمين- في القرن الهجري الأول- كانت فيالق، هي بدورها تتألف من سرايا- بالمعنى الواسع للسرية- والسرايا قوامها وحدة القبيلة ببطونها وأفخاذها، تأتمر بإمرة شيخ القبيلة الذي يتلقى تعليماته من القائد الأعلى للجيش، ودرج المحاربون على اصطحاب أسرهم معهم في الغزو والجهاد؛ لأن ذلك أدعى لصمود المحارب الذي يدافع عن عقيدته أولاً، وعن أسرته المعسكِرة خلفه ثانياً. ولذلك فقد اصطحب المحاربون أسرهم في غير ما غزوة قبل قدومهم إلى اليرموك، وقد سجل لنا التاريخ العربي بطولات نسائية مشرِّفة في هذه الغزوات داخل الجزيرة العربية وخارجها. وهذا ما حصل في معركة اليرموك التي يمكن أن نلخص الدور الذي قامت به المرأة الرديف للمحارب بالمهمات التالية.

1-الوقوف أمام المنهزمين من المحاربين العرب، وتشجيعهم للدفاع عن الحرمات والذراري- وهذا هو جوهر الغاية من مرافقة النساء لرجالهن في الغزوات والحملات- كالذي شاهدناه في الأيام الأولى من معركة اليرموك عندما تراجعت جيوش المسلمين حتى وصلت إلى التل الذي تعتصم فيه النساء. يقول الواقدي: "ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها، فنادت النساء: يا بنات العرب! دونكن والرجال، ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب، قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: كنتُ في جملة النساء، يومئذ على التل، فلما انكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عفيرة بنت غفار، وكانت من المترجلات الباذلات ونادت: يا نساء العرب، دونكن والرجال، واحملن أولادكنّ على أيديكنّ، واستقبلنهم بالتحريض؛ فأقبلت النسوة يرجمن وجوه الخيل بالحجارة، وجعلتْ ابنة العاص بن منبّه تنادي: قبّح الله وجه رجلٍ يفرّ من حليلته؛ وجعل النساء يقلن لأزواجهن: لستم لنا ببعولة إن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج؛ قال العباس بن سهل الساعدي: كانت خولة بنت الأزور، وخولة بنت ثعلبة الأنصارية، وكعوب بنت مالك بن عاصم، وسلمى بنت هاشم، ونعم بنت فياض، وهند بنت عتبة بن ربيعة، ولُبنى بنت جرير الحميَريّة، متحزّمات وهن أمام النساء والمزاهر معهن، وخولة تقول هذه الأبيات[5])

يا هارباً عن نسوةٍ ثقاتْ

لها جمالٌ ولها ثباتْ

تسلّموهن إلى الهناتْ

تملك نواصينا مع البناتْ

أعلاجُ سوق فُسُقٌ عتاة

ينلن منا أعظم الشتاتْ


قال: ورجعت النساء تحرّض الفرسان على القتال، فرجع المنهزمون رجعة عظيمة عندما سمعوا تحريض النساء، وخرجت هند بنت عتبة وبيدها مزهرها ومن خلفها نساء من المهاجرين وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أُحُد، وهو هذا:

نحن بنات طارقْ

نمشي على النمارقْ

مشيَ القطا الموافق

قيدي مع المرافقْ

ومن أبى نُفارقْ

إن تغلبوا نمالق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

هل من كريم عاشق

يحمي عن العواتق؟!


قال: ثم استقبلتْ خيل ميمنة المسلمين فرأتهم منهزمين، فصاحت بهم: إلى أين تنهزمون؟ أين تفرون من الله ومن جنّته وهو مطلع عليكم؟ ونظرتْ إلى زوجها أبي سفيان منهزماً، فضربتْ وجه حصانه بعمودها، وقالت له: إلى أين يابن صخر؟ ارجع إلى القتال، وابذل مهمتك، حتى تمحّص ما سلف من تحريضك على رسول الله (r). قال الزبير بن العوام: فلما سمعتُ كلام هند لأبي سفيان ذكرت يوم أُحُد ونحن بين يديْ رسول الله (r)، قال: فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند، وعطف المسلمون معه، ونظرتُ إلى النساء، وقد حملن معهم، وقد رأيتهن يسابقن الرجال وبأيديهن العُمُد بين أرجل الخيل، وقد رأيت منهن امرأة وقد أقبلتْ إلى علجٍ عظيم، وهو على فرسه، فتعلقتْ به، وما زالت به حتى نكسته عن جواده وقتلتْه، وهي تقول: هذا بيان نصر الله المسلمين.([6]) وكان هذا الموقف من النساء من المواقف الرائعة التي أسهمت في حسم معركة يتقابل فيها جيشان غير متكافئين عدداً وعدة، ولكن مثل هذا السلاح المعنوي رجّح ميزان الجندي العربي فزاد في بسالته، فعاود الهجوم بعد الانهزام؛ لكيلا يشعر بالإهانة والمذلة أمام نساء القبيلة، ولذلك قال منهال الدوسي: "فلقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم، فرجع المسلمون عن الهزيمة ونادى بعضهم بعضاً، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"([7]).