عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 01-10-2003, 03:32 AM
علي علي2 علي علي2 غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2003
المشاركات: 156
إفتراضي

وكانت النساء لا تستغل في الرجال عاطفة الأبوة، وظاهرة الدفاع عن الحُرمات، وهي قيمة أخلاقية ابتدأت في الجاهلية وتنمّت في الإسلام، وإنما لجأت النساء إلى استفزاز الرجال وتحريضهم بلمس العقائد الدينية التي أصبحت بعد انتصار الإسلام وانتشاره في العقدين الأولين من القرن الهجري الأول الدافع الأساس للجهاد، والمرغّب الأصل في الشهادة لنصرة الدين، وخاصة أن المسلمين يحاربون جيشاً يغايرهم تماماً في العقيدة فتلجأ المرأة لا إلى دالّة الزوجية وإنما للنخوة الدينية كالحالة التي رأيناها عندما هاجم بطارقة الروم قلب الجيش الإسلامي وميمنته. حيث كان لواء القلب بقيادة يزيد بن أبي سفيان، ولواء الميمنة بقيادة عمرو بن العاص فتكاثر الروم عليهما، فتراجع المسلمون حتى التصقوا بالتل الذي عليه النساء، وأحاطوا بالتل، فصاحت امرأة: أين أنصار الدين؟ أين حماة المسلمين؟ وكان الزبير بن العوام جالساً عند زوجته أسماء بنت أبي بكر، قال: يا أسماء ما لهذه المرأة تصيح: أين أنصار الدين؟ فقالت له عفرة بنت عثمان: يابن عمة رسول الله (r) انهزمت ميمنة المسلمين، حتى ألجأهم الروم إلينا، وأحاط بنا الأعلاج وهذه نساء الأنصار مستصرخة بأنصار الدين، فقال الزبير: والله إني أنا من أنصار الدين، ولا يراني الله جالساً في مثل هذا الوقت، قال: ثم طرح الخرقة عن عينه واستوى جالساً على متن جواده، فأخذ قناته وجعل يطعن فيهم طعنا متداركاً حتى ردهم على أعقابهم"([8])

ولم تقتصر هذه المواقف الشجاعة على أن تحرِّض المرأة زوجها الذي لها عليه من الدالة ما يسمح بمثل هذا التحريض المشوب باللوم، ولكنْ تعداه إلى مواقف أنثوية أكثر شجاعة حيث تقف امرأة أمام خالد بن الوليد لتذكّره بأنه القائد العام لجيش المسلمين، والقائد قدوة لجنوده، فإن ثبت في المعركة ثبت رجاله، وإن وهن انهزم رجاله. وصف الواقدي حملة القائد الرومي (قناطر) بأنها من أشد الحملات مما زعزعت صفوف جيش المسلمين، مما اضطر خالد إلى إعادة ترتيب صفوف جنده، فإذا هو يعبئ ألويته أقبلت إليه امرأة اسمها ذرعة بنة الحارث منحدرة عن التل، حتى وقفت بين يديه، وقالت: "يابن الوليد، أنت من العرب الكرام، وإنما الرجال بأمرائها، فإن ثبتوا ثبتت الرجال معهم، وإن انهزموا انهزمت الرجال معهم، فقال لها خالد: ما كنتُ من المنهزمين، وما كنا إلا نقاتل في الأعلاج، فقالت: قبّح الله وجه عبد نظر إلى أميره ثابتاً وهو منهزم"([9])

2-وقد يقلّل الباحث المنصف من دور النساء في المعركة إذا صوَّر دورهن مقصوراً على مجرد رد المحاربين المنهزمين، وتحريض المقاتلين على العودة إلى صميم المعركة تارةً باستثارة الحافز الديني، وتارة بحافز الدفاع عن الحرمات وحماية الأطفال، وإنما الحق أن يبيّن دورهن في العمليات القتالية نفسها، والاشتباك مع المحاربين الآخرين من جنود الأعداء، وقبل توضيح ذلك حريّ بنا أن نقول إن المصادر التاريخية سواءٌ عند العرب أم عند غير العرب لم تتحدث مطلقاً عن أي دور للمرأة الرومانية، لا في المعركة ولا على هامشها، على حين تحدثت مصادر الطرفين عن مشاركة المرأة العربية في الأعمال الحربية إن في العمليات (اللوجستية) أو في الاشتباكات القتالية. وليس ذلك بغريبٍ على المرأة المسلمة ذلك لأنهن، في فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، شهدنَ مع رسول الله المشاهد الحربية، فهن يداوين الجرحى، ويسقين الماء، ويبرزن للقتال، ويقول عبد الله بن قرط: "ولم أر امرأة من نساء قريش قاتلت بين يدي رسول الله (r) ولا في اليمامة مع خالد ما قالت نساء قريش يوم اليرموك، حتى دهمهنّ القتال، وخالط الرومُ المسلمين، فضربن بالسيوف ضرباً وجيعاً، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب (رض)، وكان قد انضمت النساء المهاجرات لغيرهن وقامت الحرب على ساق، وتنادى النساء بأنسابهن وأمهاتهن وألقابهن، وجعلن يقاتلن قتال الموت، ويضربن وجوه الخيل بالعمد، ويلوّحن بالأطفال، وجعل النساء بعضهن يقاتل المشركين، وبعضهن يقاتل المسلمين حتى رجعوا إلى قتال المشركين"([10]).

ومما يلحق بإدارة (تكتيك) المعركة ذلك الموقف النفسي العظيم الذي وقفتْه النساء المخلصات من المهاجرات والأنصاريات عندما هجم الروم على مخيَّم النساء وكان فيه مجموعة من نساء لخم وجذام وخولان، وهي قبائل عربية كانت تعيش في الجولان ومشارف الشام، وتتذبذب في ولائها للروم أولاً، حتى ملكهم جبلة بن الأيهم الغساني قاد جيشاً من متنصرة الشام وحارب المسلمين في يوم اليرموك. أعود إلى الموقف النفسي الرائع الذي وقفته نساء المهاجرين والأنصار عندما لمسنَ ضعف نفسيات تلك النساء وخورهن وانهزامهن، فلاحظت المهاجرات أنه من الحفاظ على وحدة الصف العربي، وتماسك الجبهة النسوية العربية أن تُخرَج هذه النسوة الضعيفات العقيدة، المتذبذبات الولاء من الصف، فروت المصادر الموثوقة أن المحنّكات الحكيمات من نساء المؤمنين من بينهن خولة بنت الأزور، وأم حكيم بنت حكيم بنت الحارث، وسلمى بنت لؤي "وجعلنَ يضربن في وجوههن ورؤوسهن بالعُمُد، ويقلنَ: اخرجنَ من بيننا، فأنتن توهِنَّ جَمْعنا" قال الذين شهدوا المعركة ورأوا بأم أعينهم هذا الموقف: "فرجعتْ نساء لخم وجذام يقاتلن قتال الموت، وقاتلت أم حكيم بنت الحارث أمام الخيل بالسيف، وما نسمع يومئذ صوت واحدة من النساء غير صوت واعظة تعظ، وأما أم حكيم فإنها جعلت تنادي: يا معاشر العرب احصدوا الغُلف بالسيوف وأما أسماء بنت أبي بكر فإنها قرنت عنانها بعنان زوجها الزبير بن العوام، فما كان يضرب إلا ضربت مثله" قال شاهد العيان: فانقضَّ المسلمون إلى القتال على أعدائهم حين رأوا النساء يقاتلن قتال الموت، ويقول الرجل لمن يليه: إن لم نقاتل نحن هؤلاء.. وإلا فنحن أحق بالخُدور من النساء فلله در نساء قريش يوم اليرموك."([11])

ومن هذه المواقف الاشتباكية الرائعة ما حدثنا به أبو عامر، وهو جندي شاهد المعركة وقاتل فيها، قال: "وحملتْ خولة بنت الأزور على عِلج من الأعلاج كان قد حمل علينا، فاستقبلته وجعلتْ تشالشه- أي تضربه ويضربها بالسيف- فضربها العلج بسيفه على قصتها فأسال دمها، وسقطتْ إلى الأرض، فصاحت عفيرة بنت عفان، حين نظرتها صريعة، ونادت: فُجِع، والله، ضرارٌ في أخته، فأخذتْ رأسها على ركبتها، والدم قد صبغ شعرها كالشقائق- شقائق النعمان وهو زهر ورقة أحمر داكن- فقالت لها: كيف تجدك؟ قالت: أنا بخير إن شاء الله تعالى، ولكني هالكةٌ لا محالة، فهل لكِ عليَّ بأخي ضرار؟ فقالت عفيرة: يابنة الأزور، ما رأيته، فقالت خولة: اللهم اجعلني فداءً لأخي، ولا تفجع به الإسلام، قالت عفيرة: فجهدتُ أن تقوم معي فلم تقم، فحملناها إلى أن أتينا بها موضعها، فلما كان الليل رأيتها وهي تدور تسقي الرجال، وكأن ليس بها ألم قط، ونظر إليها أخوها والضربة في رأسها، فقال لها: ما بك؟ فقالت: ضربني علجٌ قتلته عفيرة، فقال لها: يا أختاه: أبشري بالجنة، فقد أخذتُ لك بثأر الضربة مراراً، وقتلتُ منهم أعداداً"([12]).

3-وثالثة المهمات التي كانت منوطة بالنساء في الحرب هي العمليات (اللوجستية) صحيح أن هذا المصطلح العسكري حديث، ولكنه من مستلزمات الحرب قديماً وحديثاً ومستقبلاً؛ لأن العمليات اللوجستية ضرورة لا بد منها للجيوش، وقد كانت النساء تقوم بنصيب وافر منها. فكانت تدخل إلى المعركة لإخلاء الجرحى والمصابين، ونقلهم من ساحة المعركة إلى معسكر النساء، وإسعاف من كانت جروحه تنزف، في زمن لم تكن هناك سيارات إسعاف، ولا مستشفيات ميدانية، فدور المستشفى تقوم به نساء خبيرات مدربات في معارك سابقة، على معالجة الجروح وإيقاف النزيف، ومداواة العيون، وخاصة في اليوم الذي عُرف في معركة اليرموك باسم (يوم التعوير) ذلك لأن رماة القوس والنشّاب في صفوف الروم كانوا قد حفروا خندقاً وتواروا فيه، وأُعطوا التعليمات بإطلاق سهامهم ونبالهم على المحاربين المسلمين عندما يقتربون من خندقهم في حالة تراجع جيش الروم، وهذا ما كان فعلاً، فما إن اقترب منهم المسلمون حتى أخذوا يطلقون ما في أقواسهم وجعبهم من السهام، وكانوا من المهارة بحيث يصوّبون نبالهم إلى عيون المسلمين فتصيبها، وقد أُصيب من المسلمين عيون سبع مئة محارب في يوم التعوير، ومنها العين الوحيدة التي كانت لأبي سفيان في معركة اليرموك، فرجع من المعركة أعمى، بعد أن كانت عينه الأولى قد ذهبت في غزوة الطائف، فكانت مهمة النساء معالجة العيون والجروح البسيطة لعل المحارب يستأنف القتال بعد تضميد جراحه.

ومن الأعمال اللوجستية المنوطة بالنساء إعداد الطعام وتهيئة المؤونة والماء، والفائض من السلاح ومخلفات الغنائم، والخيول المكتسبة في المعركة وتقديم العلف لها ولخيول المسلمين البديلة المهيأة لمن فقد فرسه، ولتسلُّم الإمدادات التي تأتي من دار الخلافة في المدينة، واختبار جاهزيتها ووضعها في تعبئة معينة بإشراف القائد العام.

ومن الأعمال العسكرية التي ساهمت بها النساء العربيات حراسة المعسكرات على الحدود الفاصلة بين الجيشين. وتُجمع كتب التاريخ على أن أشد أيام المعركة هولاً تواقف فيها الجيشان من الفجر حتى العشاء وسقوط العتمة، رجع المسلمون إلى معسكر راحتهم، بعد جهاد شاق في ذلك اليوم، لذلك لم يعيِّن أبو عبيدة أحداً من المسلمين لحراسة الجيش؛ لما نالهم من التعب. بل إنه تولى الحرس بنفسه ومعه جماعة من المسلمين، قال: فبينما هو يدور إذ رأى فارسين قد لقياه وهما يدوران بدورانه، فكلما قال: لا إله إلا الله، قالا: محمد رسول الله، فقرب أبو عبيدة منهما فإذا