عرض مشاركة مفردة
  #58  
قديم 25-04-2006, 02:50 AM
أبو إيهاب أبو إيهاب غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
المشاركات: 1,234
إفتراضي

باقى المقتطفات



وحتى حديث "افتراق الأمة إلى ثلاثة وسبعين فرقة" الذي اعتمد عليه الأكثرون، وأنها كلها في النار إلا واحدة، هي التي سموها "الفرقة الناجية"، حتى هذا الحديث على ما فيه من كلام في سنده وفي دلالته يجعل هذه الفرق المختلفة ضمن "الأمة" أي أمة الإسلام أو أمة محمد، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:"ستفترق أمتي" فجعلهم في صلب الأمة، فلا يجوز إخراجهم منها بالتأويلات والتكلفات.
وقد روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته"([12]).
وروى البخاري أيضا: أن أنسا سئل: يا أبا حمزة ما يُحرّم دم العبد وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو مسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم([13]).
ومعنى هذا: أن نحكم بإسلامه، وتجري عليه أحكام الإسلام، وإن اقترف معصية أو أخطأ في بعض مسائل العلم، سواء كانت في الفروع أم في الأصول، على ما حقّقه الراسخون في العلم.
فقد استجاب الله منا الدعاء الذي علمه لنا في ختام سورة البقرة في رفع إثم النسيان والخطأ عنا {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، ولم يفصل بين المسائل العلمية والعملية، ولا بين قضايا الفروع وقضايا الأصول.
ويعضد ذلك عمل الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم لم يكفّروا الخوارج، كما روى ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وغيرهما. قال ابن الوزير: وعدم تكفير علي للخوارج ثابت من طرق، وكذلك رده لأموالهم ثابت من طرق. وعن جابر أنه قيل له: هل كنتم تدعون أحدًا من أهل القبلة مشركا؟ قال: معاذ الله!! ففزع لذلك.


قيل: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا([14]).
نُقُول عن كبار الأئمة في إنكار التوسع في التكفير:
وهذا الأمر الذي قررناه هنا قرره كبار الأئمة من مختلف المذاهب وشتى المدارس، ولكي نؤكد هذا الأمر ونزيده وضوحا ورسوخا سننقل هنا بعض الفقرات التي تؤيد هذا الاتجاه، وتمنع التوسع في التكفير.


نُقُول عن الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين:
في كتاب "المواقف" لعضد الدين الإيجي، وشرحه للسيد الشريف الجرجاني، وهو من الكتب التي تُعَد عمدة المتأخرين من الأشاعرة:
"جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يُكَفَّر أحد من أهل القبلة. فإن الشيخ أبا الحسن -يعني الأشعري- قال في أول كتابه "مقالات الإسلاميين": ضلَّل بعضهم بعضًا، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقًا متباينين، إلاَّ أن الإسلام يجمعهم ويعمهم. فهذا مذهبه، وعليه أكثر أصحابنا.
"وقد نُقِلَ عن الشافعي أنه قال: لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء (البدع) إلا الخطَّابية، فإنهم يعتقدون حل الكذب.
وحكى الحاكم صاحب "المختصر" في كتاب "المنتقى" عن أبي حنيفة -رحمة الله عليه- أنه لم يُكَفِّر أحدًا من أهل القبلة.
وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي وغيره. قال: "والمعتزلة الذين كانوا قبل أبي الحسن -أحد رؤوسهم- تجادلوا فَكَفَّروا الأصحاب -يريد الأشاعرة- في أمور، فعارضهم بعضنا بالمثل، فَكَفَّرهم في أمور أخرى.. وقد كَفَّر المجسِّمةَ مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: كل مخالف يُكَفِّرنا فنحن نُكَفِّره، وإلاَّ فلا".
وأيَّد صاحب "المواقف" وشارحه رأي جمهور المتكلمين والفقهاء في عدم تكفير أحد من أهل الإسلام، ولو خالف الحق في بعض المسائل الاعتقادية -بأن المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة مثل: هل الله مُوجدُ فعل العبد أو لا؟ هل له وجهة أو لا؟ هل يُرى في الآخرة أو لا؟ هل يريد المعاصي أو لا؟ ونحو ذلك من القضايا النظرية- لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل مَن دخل في الإسلام وحكم بإسلامه عن اعتقاده فيه، ولا يبحث عن ذلك، وكذلك الصحابة والتابعون.
فعُلِمَ أن صحة دين الإسلام لا تتوقف على معرفة الحق في تلك المسائل، وأن الخطأ فيها ليس قادحا في حقيقة الإسلام؛ إذ لو توقفت صحة الإسلام عليها، وكان الخطأ فيها قادحًا في تلك الحقيقة، لوجب أن يُبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، لكن لم يجر حديث شيء منها في زمانه -صلى الله عليه وسلم- ولا في زمانهم أصلاً([15]).
وقال الإمام الغزالي بعد كلام عن المعتزلة والمشبهة والفِرق المبتدعة في الدين، المخطئة في التأويل، وأنهم في محل الاجتهاد: "والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرّحين بقول: لا إله إلا الله خطأ.
"والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"([16]).
وقال أيضا: "لم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه. وثبت لنا أن العصمة مستفادة من قول: "لا إله إلا الله" قطعا، فلا يُدفع ذلك إلا بقاطع.
وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف مَن بالغ في التكفير ليس عن برهان. فإن البرهان إما أصل أو قياس على أصل. والأصل هو التكذيب الصريح، ومَن ليس بمكذِّب فليس في معنى الكذب أصلاً، ويبقى تحت عموم العصمة بكلمة الشهادة"([17]).