عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 03-06-2006, 12:38 AM
محمد العاني محمد العاني غير متصل
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,514
إفتراضي

وكيف يستشعر أبناؤنا ما أقوله لهم، ويجدون من معلميهم من يحثهم على نبذ تراثنا الخالد، ولغتهم الجميلة بصورها وبديع بيانها وحسن أسلوبها، ويطلبون منهم أن ينجلبوا وراء الشاعر الأفين، الذي يقول:

كم نبشنا عن القوافي كتاباً

فشكت جهلنا المبين السطورُ

وخرجنا نسيل شعراً مقفى

رقصت روعةً عليه الحميرُ

وهذا الشاعر، عربي بدمائه ولسانه، ولكن طغت عليه عجمة الحضارة الأوروبية فأخذ يقلد شعراءها، ويسب ويشتم شعراء العروبة، وأصحاب الشعر المقفى الموزون من أمثال حسان بن ثابت، وعبدالله بن رواحة، ومن جاء بعدهما من الشعراء الكبار، منذ العصر الإسلامي حتى عصرنا الحاضر..

ولقد أصبحنا في حاجة إلى تغذية عقول أبنائنا، بما يذكرهم بتراث آبائهم وأجدادهم، نزولاً عند قوله تعالى فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)..

والحديث ذو شجون، ولو أخذتني شجونه، لأسهبت في الحديث حتى يدفعني إلى الخروج عما أنا بصدده.

فأعود إلى قصيدة الأخ الكريم الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، وقبل أن اعود إلى قصيدته، أرغب أن أذكر شيئاً عن بدء حياته العلمية، فلقد كان طالباً نجيباً في المعهد العلمي بشقراء، الذي التحق به كما التحق به تلامذتي النجباء : محمد بن عبدالله المؤذن الدوسري، وعبدالرحمن بن عبدالله الصويفي، وصالح بن صالح الزير، وعبدالله بن محمد القصيمي، والشيخ محمد بن سعد العييدي (رحمه الله)، الذين تخرجوا من المدرسة الأولى بالخرمة التي قمت بتأسيسها في سنة 1371ه، وقد التحق من أشرت إلى أسمائهم آنفاً بالمعهد العلمي في شقراء سنة 1375ه، بعدما حملوا الشهادة الابتدائية بتفوق، ثم عاد بعضهم إلى الخرمة عندما فتح معهد المعلمين بها سنة 1376ه، وكنت أدير المعهد مع إدارة المدرسة الابتدائية، وكان زملاؤه الذين أشرت إلى أسمائهم، يحدثونني عن ذكاء ونجابة زميلهم أبي عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)..

وأعود إلى قصيدة أبي عبدالرحمن، وهي قصيدة من البحر البسيط، عروضها الأولى مخبونة (فعِلن) بتحريك العين، وضربها الأول مخبون مثلها (فعِلن) بتحريك العين أيضاً. ويجوز في حشو القصيدة الخبن في كل (فاعلن) فتصير به (فَعِلُن) بتحريك العين، وهو زحاف مستحسن، يقول عنه الصاحب بن عباد في كتابه (الإقناع في العروض وتخريج القوافي) صفحة (4) طبعة المعارف ببغداد سنة 1379ه وربما كان الزحاف في الذوق أطيب من الأصل).

ويدخل الخبن أيضاً مُسْتَفْعِلن)، فتصير بالخبن إلى (مَفاعِلن) وقد افتتح أبو عبدالرحمن ابن عقيل قصيدته بقوله :

جل المصاب وحار الحاذق الفَهِمُ

واستوحش اليافع الشديد والهَرِمُ

فيدخل الخبن الشطر الثاني من البيت، في وسطه، وهذا ما جعل أحد أصدقائي ممن يقرض الشعر ويجيده، يستغرب هذا البيت الصادر عن شاعر عالم بفن الشعر وعروضه، فهاتفني وأخذ يحدثني حتى بهتني بحديثه، فأخذت أقرأ القصيدة كلها، فعلمت أن السبب في اضطراب القصيدة عند سماعها، يعود إلى (الخبن) الذي دخل وسط الشطر الثاني من البيت، فالخبن إذا وقع في أثناء الشطر من بيت البحر البسيط، شعر القارئ الحاذق باضطراب النغم، واقرأ معي قول ذي الإصبع العدواني، واسمه : حرثان:

أزرى بنا أننا شالت نعامتُنا

فخالني دونه وخِلْتُه دوني

فكلمة (فخالني)ووزنها : (511511)(مفاعِلُن)، وهي مخبونة بزحاف الخبن، ولكن القارئ لايشعر به، لوقوعه في أول الشطر، وأما كلمةوخلتُه)ووزنها: (511511)(مفاعِلُن)، فيشعر القارئ باضطراب الوزن، لوقوع الخبن في آخر الشطر..

فلو قال ذو الإصبع العدواني فخالني دونه أو خلتُه دوني) لزال الاضطراب، ولكن شعراءنا القدامى، حذقوا إيقاع الشعر ومهروا فيه. وانظر القصيدة في (المفضليات) للمفضل الضبي، صفحة 160، بتحقيق الشيخين: أحمد محمد شاكر، وعبدالسلام محمد هارون. غير أن الشيخين الفاضلين لم يتطرقا إلى ما تطرقت إليه في مقالتي هذه..

وقصيدة الأستاذ الفاضل أبي عبدالرحمن ابن عقيل، دخل الخبن الكثير من شطورها، وجاء في أثناء شطورها، فأحدث هذا الاضطراب، ولو أراد أبو عبدالرحمن أن يتجنب الخبنَ في قصيدته، وهو العالم بالعروض، لقال :

جل المصاب وحار الحاذق الفهم

واستوحش اليافع الصنديد والهرم

حتى يبعد الخبن عن شطر البيت..

ونقطيع البيت هكذا:

وأبو عبدالرحمن ابن عقيل (حفظه الله)، غير مضطر إلى ماقمت به من تعديل، لأن الخبن وارد وقوعه في وسط الشطر من بيت البحر البسيط، وله شاهد من الشعر العربي القديم، ولكنه لايرد إلا نادرا حتى خلا منه شعر الشعراء المعاصرين، فلم نجد (مفاعِلُن) في وسط الشطر من البيت في البحر البسيط عند الشعراء العباسيين او المعاصرين.

ويجيء الخبن مرتين وأكثر في الشطر من البيت في البحر البسيط، ولكنه نادر أيضا، وله شاهد من الشعر القديم، لايعرف قائله:

وهو قول الشاعر:

لقد مضت حقبٌ صروفها عجبُ

فأحدثت غيراً وأعقبت دولا

وتقطيعه:

ومن الزحافات والعلل التي تدخل البحر البسيط: (الطي) حيث يتحول به (مستفعلن) إلى (مفتعلن)، فإنه يحتمل عند سماعه، ولكنه يقل جرسه في الإذن عن (الخبن)، وأقبح الزحاف في البسيط ماخبلت تفعيلته، فتحولت (مستفعلن) إلى (فعِلتن)، حيث اجتمع فيها الخبن والطي..

قال أبو العلاء المعري:

ليس حال المخبول فيما يلاقي

مثل حال المطويِّ والمخبون

وأخونا أبو عبدالرحمن ابن عقيل، عالم بكل ما أكتبه عن البحر البسيط، إلا أنه آثر هذا التغيير، تغيير التفعيلة (مستفعلن) إلى (مفاعلن) في أثناء شطور أبيات القصيدة، لقدرته على هذا التغيير، وليذكر علماء العروض بما نسوه.

وقد دخل الخبن الكثير من أبيات قصيدة الشيخ أبي عبدالرحمن ابن عقيل في أثناء شطورها. وقد أحصيت هذه الأبيات فكانت عشرين بيتاً تقريباً.

ومن هذه الشطور:

(واستوحش اليافع الشديد والهرم) و(ينعون للدار أمنها وزينتها) و (والغبر من وهجه كأنها حُمم) و(باهى بك المتباينان فاتسقا) و (حليفك الصلب عند كل نازلة) و( بالرأي تغري وبالأناة تعتصم) و (كما تدفق من يمينك الكرم). وجاء الخبن في هذا الشطر أكثر من مرة، وهو نادر جداً.

ومافعله ابن عقيل (حفظه الله) يعد توسعاً في العروض، وتذكيراً لنا بهذا العلم الجليل، الذي كاد ينقرض في مدرجات الجامعات، وحلقات العلم، فلاحول ولاقوة إلا بالله..
الرد مع إقتباس