الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 30-11-2002, 02:54 PM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

و إليكم ....

الفصل الثاني

-1-‏

انطلقت سيارة (أبي عدنان) بنا حوالي السادسة صباحاً... وعندما أصبحنا خارج المدينة، وتخلصنا من طرقها المتفرعة، وجسورها المعلقة، وسياراتها التي ليس لها عدد.. أطلق أبو عدنان العنان لسيارته.‏

وقد حاولت أن أحافظ على رباطة جأشي، بيد أن عيني فضحت أمري!. لأنني كنت أنظر بطرفها إلى عداد السرعة، وأتابع دوران السهم الذي تعدى المائة والثلاثين!.‏

وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت بعض السيارات تمر بنا.. وتسبقنا!.‏

على كل حال، السرعة الجنونية شيء طبيعي في هذا البلد، وعلى هذه الطريق بالذات.. ولكن المصيبة أن أية حادثة تحدث، فإن الموت نتيجة شبه حتمية لأصحابها.‏

بعد مسيرة ثلاث ساعات تقريباً، لاح أمامنا مفرق للسيارات..‏

خفف أبو عدنان قليلاً من سرعته، ثم دار باتجاه الطريق الأيسر، وبعدها تابع سيره بسرعته المعهودة، بل وزاد عليها قليلاً.. لأن ازدحام السيارات قد تناقص إلى الربع في هذه الطريق الفرعية..‏

اعتلت الشمس كبد السماء، وغدت أشعتها شواظاً مخيفاً يلسع كل من يجرؤ على تعريض بشرته لها.. ومما عقّد الحالة أكثر فأكثر، تعطل مكيف السيارة، فكنا مضطرين إلى فتح النوافذ الزجاجية كي يخفف الهواء شيئاً من حرارة الجو.. ولكن حتى هذا الهواء بالذات، كان يلفح وجهي بضرباته الساخنة.. وأحسست بالعرق يتدفق من مسام جلدي بغزارة، والبلل يغمرني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي!.‏

وطلبتُ من أبي عدنان أن يغيثني بالوقوف في أقرب محطة، عسى أن نجد فيها شيئاً من المثلجات أو (البارد) كما يسمونه هنا.. وفعلاً، توقف في أول استراحة صادفتنا.. كانت كغيرها من الاستراحات المتناثرة على طريق هذا البلد: بناء اسمنتي مفتوح الجوانب، تنتشر تحت سقفه الخشبي مقاعد طويلة من القش، وبين كل مقعدين هناك طاولة مستطيلة مصنوعة من الخشب أيضاً.‏

اتجهت نحو مكان ظليل، وتهالكت على أقرب مقعد فيه.. لحقني أبو عدنان وهو ينادي النادل كي يأتيه بالبارد، ويعمّر له (شيشة)..‏

ضحكت قائلاً:‏

-شيشة!. وفي هذا الجو اللاهب..‏

أجاب أبو عدنان:‏

-إنني معتادها في أي وقت.‏

وبعد قليل، جيء بالشيشة والمشروبات..‏

وبينما كانت قرقرة شيشة أبي عدنان تملأ الجو بألحانها الغربية.. كنت أشرب (البارد) باستمراء، وأنا أتأمل هذه الشيشة الغربية العملاقة، ذات (النربيش) الملون المفرط في الطول والثخانة!!.‏

-2-‏

تابعنا السير، بعد أن نعمنا بقسط وافر من الراحة.. وعاد الهواء الساخن يلفح وجهينا.‏

قال أبو عدنان وهو يخفف سرعته قبل أن يصل إلى (مطب) ممتد على عرض الطريق:‏

-أرجو أن نمر بسلام.. فهنا مركز شرطة.‏

وأربد وجهي عندما مرت كلمة (شرطة).. فقد تذكرتُ أن لا (إقامة) معي..‏

وتصنّع أبو عدنان الابتسام حين أحس بقلقي... قال:‏

-لا تخف.. فهم نادراً ما يوقفون سيارة ذات (نمرة) خاصة..‏

ومسح جبينه بباطن كفه.. تابع حديثه:‏

-ثم.. من يجرؤ على تعريض نفسه لحرارة الظهيرة...‏

وفعلاً.. مرت سيارة أبي عدنان أمام المركز.. ولم يكن هناك أي شرطي واقف أمام الباب... تجاوزنا المركز، فوضعت يدي على قلبي وتنهدت بارتياح...‏

بعد فترة من الزمن، أحسست بشيء من الضجر، تململت في مكاني.. أحس بي أبو عدنان، فقال:‏

-اصبر قليلاً.. لقد اقتربنا من مدينة (البحري).‏

وندت من فمي صيحة مفاجئة، قال أبو عدنان باستغراب:‏

-ما بك!.‏

قلت وأنا أشير بسبابتي إلى مجموعة من الأبنية والفيلات الحديثة لاحت من بعيد:‏

-أهذه.. مدينة البحري!‏

قال:‏

-لا.. إنها الهيئة الوطنية للمشاريع.. وهذه مساكن العمال والموظفين.. على كل، إنها أول المعالم التي تدل على اقترابنا من مدينة البحري.‏

ظهرت (البحري) أخيراً.. وعندما دخلنا إليها وسرنا في شوارعها.. أخذت أتأمل مخازنها ودكاكينها بشغف، وأتابع أسواقها وسكانها بإعجاب.. كان كل شيء فيها يغلب عليه الترتيب والتجديد والنظافة.. قال أبو عدنان:‏

-إنها مدينة جديدة بمعنى الكلمة..‏

وصمت قليلاً.. ثم تابع:‏

-لو جئت إلى هنا قبل سنوات قليلة، لوجدت أمامك بلدة متخلفة.. ولكن يد البناء والعمران امتدت إليها منذ عهد قريب، وبخاصة بعد أن أنشئت فيها مصفاة للنفط ومحطة لتحلية المياه.‏

وقطع حديث أبي عدنان صوت الكابح.. ووقوف السيارة بجانب بناء جديد كغيره من الأبنية المجاورة..‏

ضحك أبو عدنان وهو يفتح باب بيته قائلاً:‏

-هلم إلى الحمام، فأنت بحاجة ماسة إليه.‏

قلت له ممازحاً:‏

-لا أظنني بحاجة إليه، فقد نعمت بحمام (عرق) كامل في أثناء الطريق!!‏

-3-‏

مهما تحدثت عن المشاق التي عانيتها، والصعوبات التي لاقيتها.. في أثناء سفري هذا إلى مدينة (البحري)، فإنها لا تعد شيئاً إذا قورنت بعناء السفر من (البحري) إلى (العويس)، وبالتحديد من (النخلي) إلى العويس... فأنت إذا أردت أن تذهب إلى العويس عليك أن تذهب أولاً إلى بلدة (النخلي)، وهي بلدة صغيرة تبعد حوالي خمسة وخمسين كيلو متراً عن البحري.. وبعد وصولك إلى هذه البلدة، عليك أن تودع تلك الطريق الناعمة المعبدة، قبل أن ترمي بنفسك وبسيارتك في أحضان طريق وعرة يتجاوز طولها تسعين كيلو متراً!. ولو وضعت هذه الطريق الوعرة في كفة، ووضعت في الكفة الأخرى كل المسافات التي قطعتها، لرجحت كفة هذه الطريق حتماً!!.‏

بالمناسبة.. أنا لم أخبركم أن أبا عدنان قد استبدل في مدينة (البحريّ) بسيارته الصغيرة المريحة.. أخرى جبلية من نوع (جيب)، في البداية لم أعرف السبب، لكن عندما قطعت أمتاراً قليلة من طريق (العويس) الوعرة عرفت قيمة الجيب، وأدركت بأنه لو كانت السيارة الصغيرة معنا.. لتحطمت فعلاً!‏

كانت السيارة تتجه تارة إلى يمين الطريق وتارة أخرى إلى يسارها، وكانت ترتفع في مكان وتنخفض في مكان ثان، وأحياناً كانت تمر فوق مطب مفاجئ فتقذف جسمي إلى أعلى لدرجة أن رأسي يصطدم بالسقف.. وكان الغبار الكثيف يدخل الشقوق والنوافذ فيغمر وجهي، ويملأ جوفي، ويعمي عيني.. وبخاصة عندما تمر بنا سيارة مسرعة تحمل وراءها تلك الزوبعة المخيفة التي تخفي كل المناظر من حولنا، وتجبر أبا عدنان على تخفيف سرعته كي لا يصطدم بشيء لا يراه!!.‏

وكان أبو عدنان قد تحول شخصاً آخر.. لقد تغير لون شعره وبشرته تماماً، فأصبح شبحاً مخيفاً لا تميز ملامحه!. نظرت إليه وأنا أضحك.. فنظر إلي هو الآخر مبتسماً، ثم قال بتهكم:‏

-لا تضحك علي.. انظر إلى وجهك في المرآة.‏

وحرك المرآة الصغيرة المعلقة، حتى باتت على مرمى نظري تماماً.. شهقت باستغراب، إذ لم يكن الوجه الذي أراه هو وجهي الذي أعرفه وآلفه!.‏

لقد تحولت أنا أيضاً شخصاً آخر، شبيهاً بتلك الشخصيات الخرافية، التي كانت تثير فينا الرعب، ونحن نستمع إلى حكاياتها من جداتنا..‏

ضحكت وضحكت.. ولم أكن أدري أأضحك من هذا المنظر الغريب، أم أضحك على نفسي التي سقتها إلى هذا المكان العجيب!!.‏

-4-‏

لم أعد أحسب حساباً للوقت، فهذه أطول طريق عرفتها في حياتي!.‏

أخذت أتابع بعيني تلك الجبال السوداء التي لا نهاية لها.. كانت الطريق تخترقها أحياناً، وأحياناً ترتفع إلى قممها، وأحياناً أخرى تزحف زحفاً وهي تلامس سفوحها!. وكادت الأرض أن تكون جرداء قاحلة لولا بضع شجيرات قصيرة، غريبة المظهر، تبدو بين حين وحين على جانبيّ الطريق.‏

وكان يقطع الدرب بين فترة وأخرى جمل متبختر أو حمار عنيد أو عنزة متشردة، فنضطر إلى الوقوف ريثما يمر موكبه من أمامنا!... على كل حال كانت الحيوانات الشاردة محط تسلية لنا ومثار أنس في طريقنا التي لم تكن تجود علينا بغير التراب!..‏

يا الله!...‏

أفي جوف هذا الصحراء تكمن حياة؟!‏

أبعد هذه المسافات الموغلة هناك سكان وحركة ومجتمع؟!‏

في الحقيقة... أتمنى لو أن أبا عدنان لوى عنان سيارته، وكر راجعاً! فأنا أشعر- وإن كان شعوري هذا جاء متأخراً- أن الطمع قد أعماني عن النظر في العواقب.‏

***‏

وأخيراً، لاحت العويس..‏

عرفت ذلك عندما أشار أبو عدنان إلى البيوت البعيدة، قائلاً وابتسامة النصر مرتسمة على شفتيه المتشققتين:‏

-لقد وصلنا أخيراً..‏

وهمست مردداً:‏

-أخيراً... أخيراً...


إلى اللقاء في الفصل الثالث بإذن الله ..

أخوكم في الله ..
الرد مع إقتباس