الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 04-12-2002, 02:10 AM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

كل عام و أنتم بألف خير
أتمنى لكم عيدا مباركا سعيدا

إليكم ....
الفصل الثالث

-1-‏

العويس قرية كثيفة السكان، واسعة المساحة، تمتد على خط طولي يسعى بين عدة جبال، وعند كتف كل جبل.. مجموعة من البيوت المتراصة أو المتفرقة، أما عرض القرية فبسيط للغاية! لكن طولها ممتد إلى مسافات بعيدة بحيث يصعب عليك السير على قدميك، بل أنت تحتاج إلى سيارة تقلّك عبر هذا الامتداد.. وكثيراً ما تنقطع البيوت والدكاكين، حتى تظن أنك انتهيت من العمران، ولكنك تفاجأ بعد قليل بظهور مبان أخرى تشعرك بأنك لم تبتعد بعد عن حدود البلدة.‏

وتوقف أبو عدنان بجانب أرض متسعة، ارتفعت فيها أعمدة إسمنتية، أشار إليها وهو يقول:‏

-هذه هي المدرسة الجديدة.‏

ثم طلب مني أن أحمل حقيبتي، وألحقه إلى بيت صغير متربع خلف المدرسة، كان بيتاً ريفياً بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. فهناك خزّان مياه مكشوف، وهناك مزرعة أكثر أشجارها نخيل، وهناك سبيل يستقي منه العابرون ماءً لشربهم، وهناك تيس يرعى، وديك يصيح، وحصان يصهل، وحمار ينهق، وعصافير تغرد..‏

صاح أبو عدنان:‏

-تعال يا تحسين.. تعال لتقابل أصحابك الجدد..‏

وعندما دخلت السكن، فوجئت بجمع كبير يجلس في فنائه.. قام أفراده لتحيتي، وهم يرددون بلهجة شامية محببة:‏

-مرحباً بالضيف الجديد..‏

جلست قليلاً مع الشباب، وقد انتابني شيء من الوحشة، فهذا أول لقاء بيني وبينهم، ومن يدري.. ماذا يخبئ المستقبل..‏

غمزني أبو عدنان قائلاً:‏

-هات فراشك، وضعه هنا.. إنه مكان مناسب.‏

فتحت فمي مستغرباً:‏

-ولكن أين غرفتي؟!..‏

ضحك أبو عدنان وقال:‏

-البيت الضيق، يتسع لألف صديق.. ستنام بالطبع مع الشباب، وفي هذه الغرفة.‏

لم يكن عرق الطريق قد جف بعد، ولم يكن غباره المقيت قد مُسح عن وجهي وشعري وثيابي.. عندما قمت ونيران الغضب تتأجج في صدري، وهرعت إلى حقيبتي فاتحاً إياها بنزق، أخرجت ورقة العقد.. ومزقتها بانفعال إرباً إرباً.. ثم رميت مزقها أمام أبي عدنان ونظرات التحدي تكاد تثقب وجهه:‏

-هيا.. أعدني إلى المكان الذي أحضرتني منه، وهناك سأرضيك بما تريد، لأنني الطرف المنسحب من تنفيذ العقد.‏

ولم يرد أبو عدنان، بل نظر إلي ببرود.. بينما قام بعض الشباب لتهدئتي، طالبين مني التريث.. إذ ربما غيرت رأيي بعد معرفة ظروف المعيشة.. قالوا لي:‏

-ستسرّ معنا في هذا البيت المتواضع.. جرب أياماً معدودة ولن تخسر شيئاً.‏

في كلماتهم طيبة ساحرة، وعاطفة مريحة.. جلست، وأنا أتمتم بكلمات اعتذار غير مفهومة.. ثم جئت بفراشي، ووضعته في المكان الذي اختاره لي أبو عدنان.. ألقيت بجسدي المنهك عليه، ثم غطيت وجهي بالوسادة، وأخذت أبكي بكاءً مراً!!!‏

-2-‏

استيقظت باكراً على صياح الديكة.. نظرت حولي فلم أجد أحداً.. تذكرت أحداث الليلة الفائتة، عادت الغصة لتسكن في حلقي، بلعت ريقي بصعوبة، وأنا أشعر وكأن البكاء يعاودني من جديد.. تحاملت على نفسي، وقمت من فراشي وأنا أتلفت هنا وهناك.. أين ذهبوا.. يبدو أنهم جميعاً يزاولون أعمالهم في هذه الساعة المبكرة!.. وضعت (المنشفة) على كتفي، وخرجت من السكن.. دهمني نور النهار الذي غمر الأرجاء، وداعبني هواء الصباح بنسماته الندية العليلة.. نظرت إلى العصافير الملونة تطير هنا وهناك وهي تملأ الفضاء بألحانها الشجية، وتابعت بنظري جذوع النخيل وسعفه الخضر وعناقيده المدلاة الشهية.. ثم التفت إلى الأفق الشرقي، وقد بدأ يتمخض عن شمس تضحك ليوم جديد..‏

أحسست بالسعادة تغمرني فجأة، فلا شيء يفوق حبي للطبيعة الساحرة.. نعم، أحسست بالسعادة.. فها هي ذي السحب السوداء التي أحاطت بي قد تبددت، وها هي ذي شموس الأمل والتفاؤل قد أشرقت من جديد، وها أنذا أشعر أنني على أبواب قرار جديد.. أيضاً!.‏

لماذا لا أبقى؟ حقاً... لماذا لا أبقى؟... وهل هناك ضير من السكن مع هؤلاء تحت سقف واحد، ما دام التفاهم هو اللغة المشتركة بين الجميع.‏

صوت أبي عدنان يناديني من بعيد، ويوقظني من تأملاتي وتساؤلاتي.. رأيته يلوح من مرتفع يطل على البيت، رددت تحيته بحركة مقتضبة من يدي.. صاح أبو عدنان ثانية:‏

-هيا.. انته من حمامك.. وتعال لأريك مكان عملك..‏

هززت رأسي، ثم اتجهت إلى ذلك الحمام الميداني، الذي نصبت جدرانه الخشبية قرب المزرعة.‏

-3-‏

المدرسة الجديدة التي كلفت ورشتنا ببنائها، مدرسة نموذجية بكل معنى الكلمة.. فبالإضافة إلى غرف الصف والأساتذة والإدارة، هناك مسجد ومسرح ومكتبة ومطعم وإذاعة وقاعة مطالعة.. وهذه مرافق لا تتوفر عادة إلا في أفضل مدارس الدولة، وقد علمت أن تكاليف هذه المدرسة ملايين عديدة، وقد كان كثيرون يطمعون في استلام هذا المشروع المغري، إلا أن أبا عدنان -بوسائله الخاصة- كان السباق في استلامه..‏

بالإضافة إلى مجموعة العمال السوريين الذين التقيتهم في البيت، والذين سأعيش معهم طيلة فترة عملي في هذا المشروع.. هناك أفراد من جنسيات متعددة تقوم بعملها داخل الورشة، وقد كنت أحب الإصغاء إلى أحاديثهم وكلماتهم التي لا أفقه بعضاً منها!!. وأحب المقارنة بين النبرات المختلفة التي تميز ألسنتهم.. وكثيراً ما يحلو لي أن أردد بعض الكلمات من غير أن أفهم معناها...‏

كانوا يضحكون مني، وهم يقولون بلغة عربية مفككة:‏

-أنت.. ما في كلام صح!‏

ويشيرون إلى رأسي، ثم يتابعون حديثهم (المكسر):‏

-هادا خربان.. أنت لازم علوم مظبوط...‏

***‏

انسجمت في البداية مع عملي.. خاصة وأن المساعدين الهنود الذين وضعهم أبو عدنان تحت تصرفي كانوا على مستوى لا بأس به من الفطنة والنباهة.. وكانوا يفهمون تماماً ما أرشدهم إليه من عمل، على الرغم من أن وسيلة التفاهم لم تكن أكثر من الإشارة، أو بضع كلمات من العربية المفككة ا لبسيطة التي لا يفقهون غيرها!!!.


هذا هو الفصل الثالث
لا أعتقد أنني سأنزل الفصل الرابع هنا قريبا
سأسافر فترة العيد ( ادعوا لي بالسلامة ... )

مع خالص محبتي و تحياتي للجميع ..
أخوكم ...
الرد مع إقتباس