الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #6  
قديم 07-12-2002, 09:26 PM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

عدنا ...

و إليكم إخواني ...

الفصل الرابع

-1-‏

الأيام هنا قطار متحرك تشابهت محطاته..‏

رتوبة ما بعدها رتوبة، وجمود رهيب في مسيرة الحياة.‏

كنت أقضي الليل في انتظار النهار، وأدفع النهار كي أستقبل الليل! أما الملل فقد فرض صداقته الدائمة علي، والضجر بات حبيباً وفياً شديد التعلق بي!.‏

كانت (العويس) بلدة في منتهى التخلف، محرومة من أبسط الخدمات التي يتطلبها الإنسان المعاصر.. فالماء فيها لا يأتي إلى البيوت عبر شبكات خاصة، بل يعبّأ في خزانات كبيرة موجودة في كل مسكن.. والكهرباء شبه مفقودة في هذه البلدة، باستثناء الكهرباء التي تولدها (مولّدات) خاصة تابعة لبعض المنازل.. أما إذا أردت الاتصال هاتفياً بأحد، فستصاب بخيبة أمل كبيرة، لأنك لن تجد هاتفاً واحداً في كل (العويس)!. أضف إلى ذلك أن الشوارع غير معبدة وتطفح بالأوساخ والقاذورات..‏

والمواصلات العامة مقطوعة، فلا خروج من العويس، ولا رجوع إليها إلا بسيارة خاصة، وهيهات أن تجد سيارة خاصة ينقلك صاحبها بسعر معقول!.‏

وإذا عرجنا على الطعام، فستفاجأ حين أخبرك بأن الخضار والفواكه الطازجة لا ترد الأسواق إلا في مواسم خاصة ومحدودة! وهي ترد لتباع للغرباء فقط، لأن أهالي العويس ألفوا طعامهم المفضل (الكبسة).. وهو الأرز المسلوق وفوقه قطع اللحم نصف الناضجة.. يتناولونه في الفطور وعند الغداء وعلى العشاء!!. وهم إن أكلوا شيئاً من الخضراوات؛ فمصدره تلك المعلبات المتنوعة التي تغمر أسواقهم!.‏

ولا تسألني عن البريد.. فسيارة البريد الصفراء المصفحة (!) لا تأتي إلا في يومين فقط خلال الأسبوع كله.. وعليك -إذا أردت إرسال رسالة أو استلامها -أن تنتظر يوم السبت أو يوم الثلاثاء كي تحقق رغبتك الفريدة هذه.‏

فوق هذا وذاك، فالعويس محرومة من المكتبات.. وليس هناك من يلتفت إلى بيع وشراء الصحف والمجلات، مسكينة العويس.. إنها شبه معزولة عن العالم الخارجي، وهي تكاد تكون منفى حقيقياً يعاقب فيه المجرمون والأشقياء!!.‏

أقول.. أصبحت للملل صديقاً! إذ لا مكان تذهب إليه ولا طريق تسير عليها! حتى إذا أحببت أن تتنزه في الليل مستغلاً قدوم نسماته العليلة، فإن رجال (العسس) يعترضون طريقك، ويجرون معك تحقيقاً، ثم بعد السؤال والجواب يطلبون منك العودة إلى بيتك.. هذا إذا كنت محظوظاً! أما إذا كنت سيّئ الحظ، فإنهم سيرجونك بكل لطف ولباقة أن ترافقهم إلى مركز الشرطة، حيث ستنعم هناك بليلة هانئة فيها ألوان من كرم الضيافة لا تخطر على بالك!... فنظام منع التجول نظام صارم، فرضه أهل العويس على أنفسهم، ابتداء من تغلغل الظلام وتغلبه على بقايا الضياء!!..‏

ماذا أفعل.. أين أقضي وقتي؟!‏

والفراغ ممل قاتل.. ولا شيء هنا يسد هذا الفراغ!؟‏

-2-‏

الآلام تجر الآلام، والعذاب يذكرك بالعذاب‏

وشقاء اليوم.. يعيد إلى ذاكرتك شقاء الأمس......‏

(تلويحة الأيدي الصغيرة.. مازالت مزروعة في بصره..‏

ووجه العجوز الباكي، مازال مطبوعاً في خياله..‏

ما أغلى تلك الدموع التي زيّنت وجنتيها الذابلتين، وأعطتها بريقاً سحرياً ليس له مثيل..‏

كان وداعاً ولا كل وداع.... التفّت أمه واخوته الصغار حوله، كل منهم يحاول أن يحظى قبل غيره بعناقه وتقبيله... ما أصعب تلك المواقف، فيها تتفجر العواطف الإنسانية دفعة واحدة، وكأنها بركان ثائر وجد فوهته!.‏

كان الأمل.. وكانوا الطامحين في وعوده!...‏

كان البطل، وكانوا اللاهثين وراء انتصاراته!.‏

كان المنار، وكانوا المهتدين بنور مصابيحه!.‏

* * * *‏

مرت الأيام.. والرياح تجري بما لا تشتهي السفن!.‏

مرت الأيام.. والأمور تزداد تعقيداً، والحياة تنتقل من سيئ إلى أسوأ!‏

لقد صدمه الواقع الجديد، وأربكته حياة الغربة.... التفاؤل يضمحل، والأمل يخبو، ورسائله -هي الأخرى- بدأت بالتناقص مع تزايد الخيبة... تناقصت شيئاً فشيئاً حتى توقفت تماماً، وانقطعت -مع توقفها- أخباره عن الأهل وصلته مع أمه واخوته.‏

مرت الأيام..‏

والقادمون من أرض الوطن، يحملون نبأ موت العجوز، وتشرد الأطفال! والوجه المسافر، ما زال بعيداً في ديار الغربة.‏

أين كلماته ووعوده؟.‏

أين ماله الذي ينقذ العائلة، وينقلها من الضيق إلى السعة؟.‏

أين الغد المشرق، والمستقبل الباسم؟‏

ولكن..‏

أيعود الغائب صفر اليدين بعد هذه الغيبة الطويلة؟!..‏

ما جمعه.... بدده في ديار الغربة..‏

وهو ينتظر عودة المال، وهناك ينتظرون عودة الأخ المسافر!.‏

ترى..‏

هل تتحقق الأماني...‏

هل تحل هذه المعادلة الصعبة؟!..).‏

-3-‏

شهور أربعة كاملة مرت على مجيئي إلى العويس..‏

شهور ولا كل الشهور..‏

صباحاً.. أنخرط في عملي من غير أن ألتفت إلى أحد، وعصراً أتناول لقيمات الغداء بعد حمامي السريع.. ثم أجلس أمام المزرعة وقد اعترتني ملالة بلغت حد النزق، يحدثني بعضهم فأردّ بكلمات مقتضبة، ويمازحني آخرون فلا يجدون مني غير الصدّ والتأفف.. أصبحت معزولاً، أو بالأحرى أنا الذي عزلت نفسي عن المجموعة.. لم تكن مشاركتي لها إلا في النوم والطعام، وما عداهما، فأنا في واد وهم في واد آخر‍‍!..‏

كارثة كبرى.. أن يصبح الإنسان مجرد آلة تتحرك.. جهاز فاقد الشعور يسير بلا طموح أو هدف مرسوم..‏

العمل والنوم والطعام.. مظاهر معروفة في هذه الحياة.. ولكنها ليست (كل) الحياة.‏

ومصيبتي أنني أصبحت إنساناً يعمل ويأكل وينام.. فقط، بحيث لو سألتني: وماذا بعد.. ماذا عن المستقبل المأمول؟ عن الغد الجديد الذي ترنو إليه..‏

لأجبتك بكل برود:‏

-لا أعرف.. فتفكيري لم يعد مشغولاً بمثل هذه الأمور!!!!‏

* * * *‏

عادة واحدة.. لم يتخل عنها تفكيري، ربما لمحاولته الارتباط مع الجديد في هذه الحياة، ولو بخيط واه!!‏

هذه العادة هي الاهتمام بالمتعاقدين العرب الذين يردون إلى العويس للتدريس، وتسقط أخبارهم.‏

فكلما سمعت بمجيء أستاذ جديد، حاولت فتح باب للتعارف.. ولكن من بعيد.. مكتفياً بمعرفتي الرسمية له، دون أن أجرب تمزيق الحجاب الفاصل بيني وبينه!.‏

تعرّفت أبا أحمد، وأبا حسن، وأبا سالم، وغيرهم، وكانوا جميعاً متزوجين ترافقهم عائلاتهم، وكثيراً ما كانوا يزورون الورشة، ويسهرون مع أفرادها.. كنت أجلس معهم صامتاً، أستمع إلى أحاديثهم من غير أن أنبس ببنت شفة!. حتى أنهم استغربوا سكوتي، وحاولوا أكثر من مرة جرّي إلى الحديث معهم.. لكنهم بعد عدة محاولات فاشلة، توقفوا كغيرهم.. وبادلوني صمتاً بصمت، وإهمالاً بإهمال!.‏

لماذا كنت أتصرف بهذه الطريقة مع الآخرين؟.‏

أنا بالذات.. لم أعرف جواباً لهذا السؤال!!

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

أخوكم ...
الرد مع إقتباس