الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #7  
قديم 08-12-2002, 12:25 PM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

و ها هو ...


الفصل الخامس

-1-‏

متعاقد جديد.. جاء إلى العويس..‏

والشيء الذي أثار فضولي أكثر، أن هذا المتعاقد لا يمت إلى سلك التدريس بصلة، بل هو طبيب جاء ليعمل في المستوصف الحكومي..‏

وهذه أول مرة يأتي فيها طبيب عربي إلى العويس!!‏

من هو هذا الطبيب؟ ماهي صفاته؟ هل هو مسرور بمجيئه إلى هنا، أم إنه مكره -كغيره- على العمل في العويس؟‏

ترى.. هل هو اجتماعي يحب التعارف والاندماج مع الآخرين؟ أم إنه -كبعض الأطباء- يحاول أن يحيط نفسه بهالة من الغموض والترفع.. ترى، هل سيزور الورشة أسوة بغيره من المتعاقدين العرب كي يعرف المجموعة السورية العاملة فيها؟.. أم إنه سينتظر زيارتنا له وتحرشنا به.. أم إنه لن يلقي بالاً لكل هذه الأمور؟؟‏

-2-‏

قال أبو عدنان:‏

-مرحباً بالشباب.... تفضلوا.‏

وحملقت إلى وجوه القادمين، ميزت منها وجه أبي أحمد، ووجه أبي سالم، ووجهاً جديداً لم ألمحه من قبل!.‏

وصافحنا الشباب، ودعاهم أبو عدنان للجلوس في صدر المجلس، ثم أسرع إلى دولة القهوة ليقوم بواجب الضيافة..‏

قال أبو أحمد مستبقاً الحديث:‏

-معنا اليوم ضيف عربي جديد، انضم إلى قائمة نزلاء العويس!.. إنه الدكتور فارس، الذي جاء ليعمل في مستوصف البلدة.‏

ورددنا بصوت كاد أن يكون واحداً:‏

-أهلاً وسهلاً..‏

أضاف أبو أحمد:‏

-ضيفنا وأخونا الجديد.. وصل منذ أسبوع تقريباً.. وهو يواجه الغربة للمرة الأولى.‏

قال أبو سالم:‏

-الحقيقة.. كلنا غرباء.. وكلنا نعاني من آلام الاغتراب، ونتجرع كؤوسه المرة كل يوم.. ولكن لقاءاتنا هذه، قد تخفف بعض آلامنا وأحزاننا.‏

ووافقه أبو أحمد بقوله:‏

-فعلاً، فعلاً.. فاجتماعنا هذا يعيد إلينا الجو الذي نألفه في بلداننا، مثلاً أنا أشعر أن هذا البيت قطعة من بلدي.. بلهجة سكانه، وطريقة تفكيرهم، وأسلوب عملهم.. حتى بالكيفية التي يطهون بها طعامهم!.‏

وضحك أبو عدنان قائلاً:‏

-يبدو أنك قد جعت يا أبا أحمد!‏

أجاب أبو أحمد مبتسماً:‏

-ليس تماماً.. ولكن رائحة الطعام التي تسربت من باب هذا المطبخ، هي ما أثار اهتمامي!!‏

قال أبو عدنان بصوت عال:‏

-أبشر، أبشر.. سنطعمكم بعد قليل طبخة شامية شهيرة صنعتها يد الشباب.‏

-3-‏

كان يأكل صامتاً.. وكانت اللقمة تقف أحياناً في يده وهو يحدق إلى وجوه المحدثين، ثم تعود إلى رحلتها الطبيعية، كان يبتسم عندما تُروى فكاهة أو تُذكر طرفة، ولكنه لم يتكلم قط! ولم تتحرك شفتاه إلا عند انتهائه من طعامه، وقتئذ تمتم ببضع كلمات شاكرة، ثم غادر المائدة متعثراً، وفي عينيه سؤال عن مكان المغسلة.‏

وأسرعت بالقيام، لأكون الدليل الذي يرشده إلى صنبور الماء.‏

تبعني، وصمته مازال مرافقاً له.. ناولته لوح الصابون، استلمه مني، وقد ارتعشت على شفتيه ابتسامة، ثم بدأ يغسل يديه بهدوء وتأن..‏

كان نحيل الجسم، طويل القامة، عريض الجبين، خفيف الشعر.. كان ثوبه نظيفاً وإن كان يعوزه الكي! وكان جيبه العلوي منتفخاً بكدسة من الأوراق ربطت بقلم حبر جديد.. وكانت معالم القلق بادية في حركاته.. أحسست بارتباكه من نظراتي، فأشحت بوجهي كي يأخذ حريته بعيداً عن عيني المراقبتين..‏

غمرني ارتياح غريب لوجودي معه، وأحببت، أن أتقرب منه أكثر فأكثر..‏

حين ناولته (المنشفة) كي يمسح بها آثار الماء، قدمت له نفسي قائلاً:‏

-أخوكم.. تحسين، تحسين الدمشقي.‏

أجابني بأدب جم:‏

-تشرفنا يا أخ تحسين.. وأنا فارس.‏

وشجعتني إجابته المتواضعة على الاستمرار.. فقلت:‏

-من أي بلد.. دكتور فارس..‏

ضحك وقال:‏

-وهل يهمك أن تعرف هذا.. أنا عربي وكفى.‏

ولم أحاول تكرار السؤال، فقد سبق أن عرفت مسقط رأسه من (لكنة) كلامه، لكنني كنت أحب التأكد فقط.‏

حاولت تغيير مجرى الحديث.. سألته:‏

-أأعجبتكم العويس؟.‏

بدا مرتبكاً حين سمع السؤال، لكنه رفع رأسه وقال بكلمات متقطعة:‏

-الحقيقة.. البلدة مقبولة.. ولكن!‏

وصمت قليلاً بعد كلمة (ولكن).. وكدت أقول له: ولكن ماذا؟. بيد أنه استمر في حديثه الذي غمرته نبرة حزن مفاجئة:‏

-ولكن.. ليتني بقيت في بلدي.‏

قلت له باستغراب:‏

-أليست هذه رغبتكم.. عفواً دكتور أقصد: ألم تكن راغباً بالمجيء؟.‏

قال.. وعيناه الحزينتان تنظران بعيداً:‏

-صحيح، لقد جئت بمشيئتي.. ولكنني لا أخفي عنك، أنا نادم.. نادم!‏

أحسست بأن وراء هذا الوجه الهادئ بركاناً يوشك أن ينفجر.. حاولت تلطيف الجو:‏

-كلنا مثلك يا دكتور.. نندم في البداية.. لكننا سرعان ما نألف الوضع!!‏

قال، وهو يحرك سبابته بالنفي:‏

-لا.. لست أنا.. صحيح أنني أتيت برغبتي، ولكنها رغبة المجْبَر!!‏

(رغبة) و (بالإجبار)!... كيف توافق ذلك!.. دفعني الفضول إلى خرق الستار أكثر فأكثر، قلت له:‏

-الواحد منا يا دكتور.. مضطر للغربة، كي يجمع قرشين نظيفين، يستطيع بهما بناء حياته.‏

أخذ يفرك (المنشفة) بانفعال، وخرجت الكلمات مهزوزة من بين شفتيه المرتجفتين:‏

-لعنة الله على الفلوس.. ما قيمتها إن لم تجد سبيلاً إلى السعادة!!.‏

قلت:‏

-ولكن.. لابد منها يا دكتور، لابد منها!.‏

قال، وهو يدفع المنشفة إلي:‏

-يا رجل!! لابد منها لمن هو بحاجة إليها!.‏

سألته بنبرة دهشة:‏

-هل هذا يعني، أنك في غنى عنها!.‏

قال، وهو يحاول رسم ابتسامة على وجهه الحزين:‏

-لا أقصد ذلك.. ولكن والحمد لله الحالة مستورة في بلدي.. لي عيادة ممتازة في وسط المدينة، ولدي زبائن محترمون، ولا شيء ينقصني..‏

وبدون وعي صحت:‏

-إذاً... لماذا أتيت؟‏

وشعرت بأن صيغة سؤالي كانت غير مهذبة.. لم أعرف كيف أعتذر وأتراجع عن خطئي! لاحظ هو ارتباكي، فوضع يده على كتفي وقال بلهجة مشجعة:‏

-لا عليك، لا عليك.. ولكن لا تنح علي باللائمة!.‏

وتنهد.. ثم قال بنبرة تقطر أسى:‏

-على كل حال.. جازى الله من كان السبب.‏

إذاً.. القصة أعمق مما أتصور.. لم أرغب في متابعة الحديث نفسه، خاصة بعد أن أوصلته إلى تلك النقطة الحرجة.. قلت لنفسي: أترك بقية القصة لظرف أكثر مناسبة.‏

وهززت رأسي، ثم أشرت بيدي إلى باب البيت قائلاً:‏

-تفضل يا دكتور.. فالجماعة بانتظارك.‏

ودلف صامتاً.. ثم أخذ مكانه.. ومعالم الحزن مازالت مرتسمة على وجهه.



أرجو أن تستمتعوا بقراءة هذه الرواية

أخوكم
الرد مع إقتباس