الموضوع: رواية ...
عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 09-12-2002, 05:39 AM
ساعدة ساعدة غير متصل
ابن الصحراء
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
المشاركات: 250
إفتراضي

هذا هو ....

الفصل السادس

-1-‏

-أكثر ما يحزّ في نفسي، أنهم يسموننا (أجانب)!‏

قال عبارته هذه، ثم تنهد بعمق.‏

قلت:‏

-لم أنت مستاء من هذه التسمية يا دكتور!! لقد اعتدناها، وستعتادها أنت أيضاً، بعد أن تقضي أياماً أخرى في خدمة هذه البلد.‏

قال وهو يهز رأسه:‏

-يا أخ تحسين.. إنها تسمية جارحة، ولقب مؤذ.. إنني أحس بسكين تطعن قلبي حين يقال لي (أنت أجنبي)، وأنا إنسان عربي أعيش في بلد عربي يفترض فيه الأصالة!‏

قلت له:‏

-وماذا يضيرك من هذه التسمية.. ليسمونا كما يحلو لهم، فالأمور بحاجة إلى شيء من (التطنيش)!!‏

قال بانفعال:‏

-لا أقدر على تحمل هذه الكلمة؟ إنني في بلد هو منبع للأصالة العربية، ومورد لأخلاق العرب، ومَعْلَم للضيافة والكرم والسلوك العربي.. مع ذلك ففيه من ينظر إليك على أنك أجنبي غريب، جئت إليه لأخذ فلوسه وابتزاز أمواله، متناسياً كل مجهود تقدمه له، وكل خدمة تؤديها لمجتمعه.‏

قلت، مكرراً أفكاري السابقة:‏

-على كل حال، ما دام الأمر لا يتعدى التسمية، ولا يصل إلى حقوقك الأساسية.. فلا أرى أنه يستحق منك هذا الانفعال.‏

التفت إلي، وأجابني بحدة:‏

-ومن قال لك إنه لا يمس شيئاً من حقوقي!! ليست حقوقي يا صاحبي هي استلام الراتب في نهاية كل شهر.. بل حقوقي أن أشعر بأنني أعيش في مجتمع عدل ومساواة، أن أعامَل أمام القانون كما يعامَل أي فرد في هذه البلد، أن تطبق علي الأحكام التي تطبق على كل إنسان في هذا المجتمع، أن أقف موقف الند بجانب أي شخص يحمل جنسية هذه الدولة.‏

قلت، محاولاً تهدئته:‏

-وهل يعاملونك معاملة شاذة، تختلف عن معاملة الآخرين.‏

نظر إلي شزراً.. وقد تضرجت وجنتاه، قال:‏

-آه.. لو غيرك قالها! فأنت أدرى مني بهذه الأمور، بعد أن مضى على وجودك هنا عدة سنوات! انظر يا تحسين.. في الدوائر الرسمية معاملتك تختلف، وفي الأسواق والدكاكين معاملتك تختلف، وفي مكان عملك النظرة إليك تختلف تماماً عن نظرتهم إلى أي إنسان متجنّس يمارس مهنتك نفسها، حتى راتبك يختلف اختلافاً غير معقول عن رواتب الآخرين الذين يقدمون المجهود نفسه ويحملون المؤهلات ذاتها إن لم تكن أدنى منها!.. بل، حتى شرطي السير- الذي تلقاه في طريقك دائماً- يعاملك بطريقة تختلف.. فهو يشدد عليك فيما يتعلق بالرخصة والاستمارة، ولا يقبل منك أية رخصة دولية مهما تكن سمعتها.. بينما تراه يغض النظر عندما تمر أمامه سيارة مسرعة يسوقها طفل يرتدي الزي الوطني، ولا يتجاوز عمره تسع أو عشر سنوات!!.‏

كان الدكتور فارس منفعلاً في حديثه، وهذه طبيعته عندما يتطرق إلى المواضيع الحساسة، وبحكم كونه إنساناً مرهف الحس سريع التأثر.. لم أكن أستغرب منه هذا الانفعال، فمناقشاتي معه- والتي كانت تجري بين حين وآخر- قد علمتني الكثير الكثير من طباعه وعاداته، وأقنعتني بأن السر العميق الذي يحمله والذي كان سبباً لمجيئه إلى هذا البلد، يحتاج إلى مزيد من الانفتاح والمصارحة والحوار كي يفصح عنه!!.‏

قلت للدكتور فارس.. وأنا أحاول جره إلى مزيد من الحديث:‏

-ولكن هذا يحدث في أي بلد.. دائماً معاملة الغرباء تختلف عن معاملة المواطنين الأصليين!‏

قال.. وابتسامة سخرية مرتسمة على شفتيه:‏

-فعلا هذا يحدث في أي بلد! ولكن بطريقة معكوسة!!‏

سألته:‏

-كيف؟!‏

قال:‏

-في بلدك بالذات- مثلاً- تطلقون على الآخرين تسمية خاصة، ولكن بدلاً من تسميتهم بـ (أجانب) تسمونهم (الأشقاء العرب).. كما أنكم تعاملونهم بطريقة تختلف.. فعلاً، ولكن بالطريقة التي يعامل بها الضيف، فأنتم تعطونهم دوركم حين يتطلب الأمر الوقوف بالدور، وأنتم تسهّلون معاملاتهم وتسيّرونها بسرعة عندما يتعلق الأمر بالدوائر الرسمية، وأنتم تسألون دائماً عن أحوالهم وتطمئنون على حسن أوضاعهم عندما يسكنون بجواركم أو يعملون معكم في مكان واحد.. أنتم تحاولون جهدكم أن لا تشعروهم بالغربة، تحاولون إقناع الواحد منهم أنه يعيش بينكم فرداً من أفرادكم، بل أنتم تفضلونه على أنفسكم في كثير من الأمور.‏

لم يكن لدي جواب.. فهززت رأسي.‏

وتابع الدكتور حديثه، بلهجة يغلب عليها الهدوء:‏

-يا أخي.. يكفي أن الغربة قاسية بطبيعة الحال. فأنت منسلخ عن أهلك وأحبابك ومجتمعك الذي ألفته منذ نعومة أظفارك، وأنت بعيد عن ديارك التي شهدت أيامك الأولى، وعاداتك التي مشيت عليها منذ أن وعيت هذه الحياة.. يقتلك الشوق كل يوم مائة مرة، ويذبحك الحنين كل يوم مائة مرة، وتخنقك اللهفة إلى رؤية الوجوه البعيدة كل يوم مائة مرة.. نعم يا أخي، الغربة قاسية قاسية، وأنت بحاجة إلى أناس يواسونك في غربتك هذه، ويخففون عنك عناءها وضيقها وأذاها.. لكنك هنا تفاجأ بالعكس، أجل تفاجأ بالعكس، تفاجأ بمن يزيد من مرارة هذه الغربة، بمن يجدّد آلامها ويضاعف أحزانها!‏

وصمت....‏

نظر إلى بعيد بعينين مغرورقتين، وكأنه يحاول أن يستشف من الجبال الجرداء ما يساعده على إتمام حديثه!‏

وعادت كلماته تطرق سمعي بإيقاع عجيب:‏

-إننا شعب واحد، وأمة واحدة... المفروض أن يسافر الواحد منا بحرية ويتجول بحرية.. أن يشعر بأنه يعيش في بلده مهما تباعدت الأسفار وتغيرت المسافات، وإلا.. فما فائدة هذه الشعارات المرفوعة وتلك الأهداف الموضوعة، إن لم نطبقها في سلوكنا اليومي وتعاملنا الشخصي، وعلى جميع المستويات عامة كانت أم خاصة؟‏

إن الوحدة لا تتحقق إلا بتآلف القلوب، وتراحم النفوس..‏

وكي تقوم الوحدة الحقيقية في بلداننا، علينا أن نقيمها أولاً في صدورنا!


البقية في الطريق إن شاء الله تعالى ...

أخوكم ..
الرد مع إقتباس