عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 28-11-2003, 10:01 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

صفات الشافعي


قد شاع بين أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم الى مصر عام 199هـ، وهو يخطو الى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه. مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من آثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر، وكثرة التجوال بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق..!

قاضي الشريعة و الليث بن سعد


وفي الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة على الإمام الشافعي، فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث ابن سعد فوقف عليه مستعبرا.. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب «مسائل الفقه» الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ وكتابه في التفسير والحديث، وكتبه عن منابع النيل، وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر.. فلم يعثر الشافعي على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض تلاميذ الإمام الليث، وكان الشافعي قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث..
وأدرك المصريون أن هذا الإمام الجديد، سيحيي علم إمامهم الراحل الليث بن سعد الذي كادت آثاره أن تندثر ولما يمض على رحيله غير ثلاثة أو أربعة أعوام!!
وكان أكثر ما أعجب المصريين من إمامهم الليث حرصه على الشريعة، بحيث يتحرى في كل فتوى أن يقيس على نص قرآني، أو على سنة ثابتة، أو إجماع صحيح إن لم يجد ما يطلب في النصوص أو الإجماع، بحيث يسد الطريق على من يستنبطون الحكم بما يستحسنون أ بما يرونه محققا للمصلحة.. ويشرعون بهذا السلوك في الفتيا للولاة أو القضاة الظالمين أن يحكموا بالهوى..!!

الشافعي و الإجتهاد


هاهو ذا إذن إمام جديد يريد أن يحيي آثار الليث، وأن يلزم أصول الشريعة فيما يستنبط من أحكام، وهو يضيف الى فقه الليث اجتهاده الخاص، ويجادل عن الشريعة ويعلن للناس منذ اتخذ مجلسه للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط أن القرآن فيه حكم كل شيء، وأن السنة تفصيل وبيان لما في القرآن بكل أوجه البيان، فعلى من أراد أن يكون عليما بالقرآن والسنة، وقضايا الصحابة وإجماعهم، فقيها باللغة العربية، وبأسرار البلاغة فيها، وبقواعد نحوها. ولن يبلغ هذا العلم حتى يكون قد حفظ الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام، وبالعربية التي كان يتحدث بها البدو وقت نزول القرآن.
فقد اعترف ابن عباس وهو عليم بالتفسير أنه لم يفهم قول الله تعالى: «فاطر السموات والأرض» حتى سمع بدوية تقول عن وليدها: «أنا فطرته»، تعني أنشأته وأوجدته.. فعلم أن كلمة فاطر بمعنى: منشئ أي خالق. فإذا اجتمع لرجل علم ذلك كله من قرآن وسنة وأقوال الصحابة، وفقه اللغة العربية حق له أن يجتهد!
والإجتهاد هو بذل الجهد، ففيه مشقة.. فإذا اجتهد العالم ليجد حكما أو ليصدر فتوى فليبحث أول الأمر في الكتاب والسنة، لأن الكتاب ـ وما السنة إلا بيان له ـ فيه كل الأوامر والنواهي، وما كان ربك ليترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي.. فإن اجتهد العالم فهو عالم وفقيه.. فإن لم يجد الفقهي في الكتاب والسنة أو إجماع الصحابة حكما ينطبق على الأمر الذي يعرض له فعليه بالقياس.. لا قياس مع نص قياس إلا على نص.. ولا سبيل غير القياس إلى استنباط الأحكام التي تواجه الأمور المستحدثة التي لا نص على حكمها..
بهذا النظر جاء الإمام الشافعي الى مصر..