عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 28-11-2003, 10:06 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

الشافعي و مصر


على أن الحياة في مصر طالعته بفقه جديد مما أثر على الليث ابن سعد... واجهته بكثير من الأمور المستحدثة التي لم يواجه مثلها من قبل..
وكان الشافعي حين قدم الى مصر وأقام بها حتى توفي فيها سنة 204 هـ، كان عالما ويحفظ القرآن والحديث ويعرف إجماع الصحابة ويتقن اللغة العربية وعلومها وآدابها.. كان كل أولئك، وكان بعد رجلا عرك الحياة وبلاها، وتجول في كثير من البلاد، واجتهد وأصبح صاحب مذهب، ونشأت له من خلال هذه التجارب كلها مودات وعداوات.. كثير الأسفار ينتقل هنا وهناك ليتعلم هو ويعلم الآخرين..
عرف الحياة منذ ولد جهادا متصلا في سبيل العيش وفي سبيل العلم..
ومن الحق أنه قدم مصر وله مذهب في الفقه ولكنه لم يكد يقيم في مصر، حتى غير كثيرا من آرائه، وأعاد كتابة كتبه.
فقد عرف في مصر ما لم يكن قد عرفه من قبل.. صحت عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الإمام الليث.
وبهره ما استطاع أن يصل اليه وأن يتعلمه من فقه الليث وآرائه وفتاواه.
وعرف آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الإطلاع عليها من قبل...
ثم أنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافا كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شيء مما رأى في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق..
عاين انطلاقا في الفكر مع التمسك بروح الشريعة، تحررا في الرأي مع التزام مقاصد الشارع، ورأى أن مالكا بن أنس يخالفه بعض الفقهاء في مصر متأثرين بإمامهم الليث بن سعد، وما كان يعرف أن الإمام مالكا ابن أنس يخالفه أحد من قبل إلا في ست عشرة مسألة. خالفه فيها أهل الرأي بالعراق..
وناظر بعض تلاميذ الليث في خلاف إمامهم مع أستاذه مالك وأقنعه رأي الليث، وهاله ما رأى وسمع من تعصب بعض أتباع مالك في مصر وما يليها من المغرب كله والأندلس للإمام مالك، حتى لقد كان الناس في المغرب والأندلس يتبركون بملابس للإمام مالك أخذها منه أحد تلاميذه، فكانوا إذا دهمهم الجفاف وتأخر المطر، وصلوا صلاة الإستسقاء اتجهوا الى قلنسوة للإمام مالك يستسقون بها..!
وسمع الشافعي سخرية أتباع الإمام الليث من أتباع الإمام مالك حين يتناظرن.. إذ يروي أتباع الإمام الليث الحديث الشريف عن سنده الى أن يقولون قال رسول الله(صلى الله عليه)، فيرد أتباع الإمام مالك «قال أستاذنا وشيخنا الإمام مالك».. فيقول أتباع الليث: «نقول لكم قال الرسول عليه الصلاة والسلام فتقولون بإزائه قال الإمام مالك؟ أجعلتموه في مقام الرسول المصطفى (صلى الله عليه)؟.. لو كان الإمام مالك رضي الله عنه حيا لأفتى بأنكم ارتددتم عن الإسلام».
كان المصريون يجلون الإمام مالكا بن أنس، على الرغم من أنهم يأخذون بآراء إمامهم الليث بن سعد في خلافه مع الإمام مالك.. ولكنهم كانوا يضيقون بتعصب بعض أتباعه، ويعتبرون تعصبهم وشططهم خروجا على منهج الإمام مالك، وإساءة لذكراه، وهو الذي عاش يحمل في كل سيرته تقاليد السماحة الإسلامية وتراث الحكمة والموعظة الحسنة..
رأى الشافعي عناصر جديدة من الرأي والفكر والحضارة في مصر، واطلع على ما أنتجته المدرسة المصرية في الفقه بزعامة الإمام الليث سيد الفقهاء، فبدأ يعيد النظر في كثير من آرائه.. بصفة خاصة تلك التي اتبع فيها أستاذه مالك.. أو التي تأثر فيها فقه أهل المدينة وإمامهم مالك.. فألف كتابا فيما اختلف فيه مع مالك.. ولكنه استحيا أن يصدره. وما زال قريب العهد من الجلوس الى مالك مجلس التلميذ.. وأبقى الكتاب ينظر فيه يعدل عاما بأسره ثم أصدره. وعندما عوتب في ذلك قال: «إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون ثم خالفه قائلا إن أفلاطون صديقي والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة.
بهر الشافعي إذن بما شاهد في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم والتزاوج الفكري بين الإسلام معطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري: الحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية. وهو ما لم يعرفه من قبل.. ثم الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، وتطويع الأحكام لكل مقتضيات الحاجة الإنسانية المشروعة، مما يقيم المجتمع الفاضل الذي هو هدف الشريعة ومقصدها الأسمى..
حتى إذا انتهى الإمام الشافعي من إعادة صياغة كتبه و تصحيح آرائه على أساس العنصر الجديد الذي تدخل في صياغة وجدانه و عقله. أعلن للناس أن آرائه ليست إلا التي كتبها في مصر. أما كتبه السابقة فلا يحق لأحد أن ينسبها إليه.. وكتب بذلك إلى أقرب أصحابه وتلاميذه إليه أحمد بن حنبل فكان الإمام أحمد يقول: «خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر».
ولكن الشافعي لم يصل الى ما وصل اليه إلا بعد مشقات جسام عبر رحلة عمر كابد فيها الاهوال، حتى لقد رأى الموت رأي العين ذات مرة.
وقضى عمره كله في العيش الضنك على الرغم من ارتفاع همته ولقد عبر عن ذلك بقوله:

[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وأحق خلق الله بالهم امرؤ=ذو همة يبلى بعيش ضيق
[/poet]

ظهور الشافعي


ولد الشافعي سنة 150 هـ في غزة وهي السنة التي توفي فيها أبو حنيفة إمام أهل الرأي في العراق وفي هذا تمازح أحد الفقهاء من المذهب الحنفي وفقيه من المذهب الشافعي، قال الحنفي: «إمامكم كان مخفيا حتى ذهب إمامنا» فقال صاحبه: «نحن الشافعية نقول لما ظهر إمامنا هرب إمامكم».
ولد في عصر كثر فيه الجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي. وتعصب كل فريق ضد الآخر، فكان من أهل الحديث من يرفض الرأي إطلاقا، ومن أهل الرأي من لا يتقن حفظ عدد صالح من الأحاديث..
وهو عصر ميز بين العالم والفقيه، أبين العلم والفقه: فالعلم هو حفظ القرآن والأحاديث وآثار الصحابة.. أما الفقه فهو إعمال الفكر والإجتهاد والتأمل شحذ العقل لاستنباط حكم شرعي فيما لا نص فيه.. وقد يجمع الرجل الواحد بين العلم والفقه وهؤلاء هم الأئمة العظام والفقهاء .

أهل الحديث و أهل الرأى


وقد روي عن أحد التابعين قوله: «ما رأيت أفقه من ابن عمر، ولا أعلم من أبن عباس».
وكان أهل الحديث يقفون عند النصوص لا يعدونها فإن لم يجدوا حكما فيها، لا يفتون.
وأما أهل الرأي فقد نظروا في عطل الاحكام، واستنبطوا من النصوص احكاما لما لم يرد نص على حكمه، اعمالا للعقل، والحاقا للامور بأشباهها ونظائرها اذا توفرت علة الحكم.
وقد بلغ من وقوف بعض اهل الحديث عند ظاهر النص حدا اثار بهم سخرية أهل الرأي، وبلغ من انطلاق اهل الرأي في استنباط الاحكام حدا جعل أهل الحديث يتهمونهم!!
وقد سأل احد اهل الرأي واحدا من اهل الحديث في أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج.
فقال صاحب الحديث: تثبت بينهما حرمة الرضاع. فسأله صاحب الرأي: بأي نص. فقال صاحب الحديث بقوله «ص»: كل صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم احدهما على الآخر. فقال صاحب الرأي ضاحكا: قال الرسول «ص»: اجتمعا على ثدي واحد لا على ضرع واحد. انما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمي. فلو أنك أعملت العقل والرأي ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
وكان أصحاب الرأي يتهمون اصحاب الحديث «بالعجز عن النظر، وبأنه كلما أورد عليهما احد من اصحاب الرأي سؤالا أو اشكالا بقوا متحيرين» ومن اجل ذلك فهم ليسوا أنصارا للسنة، بل أن اهل الرأي اكثر انتصارا للسنة واتباعا لها من هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل السنة!
أما اهل الحديث فاتهموا أهل الرأي بأنهم يأخذون بالظن ..
على ان مالكا بن أنس امام اهل الحديث لم يكن يرى هذا الرأي في الامام أبي حنيفة امام اهل الرأي فقد قال فيه: اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا اوقاتا وكلمته في مسائل كثير ة فما رأيت رجلا افقه منه ولا أغوص منه على معنى وحجة».
ولكن اتباع الامامين كان فيهم من يتعصب لشيخه، ومن هؤلاء الاتباع من كان يشغب على الآخر.. حتى لقد عيروا أبا حنيفة ببعض حيله، وان كان مالك ليضحك كلما ذكرها ذلك ان الموالي ـ وهم المسلمون من أهل البلاد المفتوحة ـ قدموا الكوفة وكان لرجل منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادعى انها زوجته. وادعت المرأة ايضا ذلك .. وعجز المولى زوج المرأة عن البينة فعرضت القضية على أبي حنيفة .. وكان من رأي اهل الحديث أن المرأة للكوفي ولكن ابا حنيفة لم يطمئن الى الاخذ بها الظاهر كما صنع أهل الحديث.
ورأى ان يحقق الامر بنفسه .. وشك في ادعاء الزوجة والكوفي، فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض اهل الحديث وذهبوا الى حيث كان ينزل الموالي فنبحت كلابهم وهمت ان تهاجم كما تفعل مع الغرباء .. ثم عاد ابو حنيفة واخذ الزوجة ومعها شهود من اهل الحديث وأمر الزوجة ان تدخل وحدها الى منازل الموالي .. فلما قربت بصبص الكلاب حولها كما تفعل بأصحابها فقال أبو حنيفة : «ظهر الحق» فانقادت المرأة للحق واعترفت أنها كذبت .. وعادت الى زوجها . وسخر أهل الرأي من اهل الحديث في هذه القضية ...
على هذا النحو كان الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي .. حتى ان الشافعي عندما بدأ يطلب العلم في مجالس اهل الحديث جلس بعد الدرس في بيت صاحب له يتناشدان الشعر فأتى الشافعي على شعر الهذليين وقال لصاحبه: «لا تعلم بهذا أحدا من اهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا » ذلك أن أهل الحديث كان فيهم من يغلو فيرى في حفظ الشعر ودراسة الادب علما غير نافع .. فالعلم النافع عند هذا النفر هو القرآن والحديث وآثار الصحابة فحسب ..
اخذ الشافعي يناطح هذا كله .. ويقاوم التعصب للحديث وللرأي جميعا .. ليكون هدف المناظرة هو الوصول الى حقائق الشريعة، لا غلبة المتناظر على خصمه ..
ولكنه على الرغم من ذلك انحاز الى اهل الحديث أول الامر، وخاصم فيهم أهل الرأي، حتى اذا استقل به المقام في مصر تلك السنوات الاخيرة من حياته القصيرة (150 - 204) تعلم أن الامام الليث كان قد اهتدى الى مذهب وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، معتمدا على استيعاب يقظ لروح الشريعة ومقاصدها، فأعجب بأصول مذهب الليث وفروعه وزاد عليه واضاف ونقح في خمس سنوات عاشها في مصر كل ما كان قد كتبه طيلة حياته من قبل. وعرف ما كتبه في مصر باسم «المذهب الجديد».