عرض مشاركة مفردة
  #7  
قديم 28-11-2003, 10:21 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

بعد الأزمة


وعكف على دراسة الطب والعلوم الطبيعية والرياضية يستكمل ما فاته منها، واهتم بالرياضة البدنية، وعاد يتدرب على الرمي وركوب الخيل، وقسم وقته بين هذا كله وبين دراساته الفقهية ودراسة ما ترجم من ثقافات المصريين القدماء القبط واليونان والفرس والهند.
واتخذ لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة.
لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق، ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل.
صاحب الشافعي محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشتاقا الى المعرفة، والى المزيد من العلم، وكان يقول: «من حسب أنه علم فقد ضل وجهل».
ولزم الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة لمالك، هجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول الإمام مالك، فما كايد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا عليه في العراق إسم «ناصر السنة».
وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه، فأصر محمد على أن يناظره الشافعي.
وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمدا ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الإكتفاء بشاهد واحد مع اليمين.
وظهر الشافعي على محمد في المناظرة.
ثم رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل الى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث حجج شيخهم في التمسك بشاهدين.. فأخذ الشافعي برأي الليث...
أعجب محمد بالشافعي، وولع بمناظراته. وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع بحجته.
قال عنه الشافعي: «ما رأيت أحدا سئل في مسالة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن».
وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه على كان على موعد مع الخليفة، وإذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه إذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي: «لنا قلت غير هذا». فقال محمد: «لا».
ودخل به داره يتناظران ويتدارسان.
وعلى الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من أتباع أبي حنيفة والشافعي من أتباع مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول الفروع ـ على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي ـ وسألوه لما يؤثر الشافعي عليهم الى الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال والاستماع.
أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمجارات الشافعي ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة وبراعة المتناظرين.
لكم كان الشافعي عفيف اللسان فهو لا يسيء الى أحد ولا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه.
قال له أحد أصحابه: فلان كذاب. فقال: «لا تقل (كذاب) بل قل حديثه غير صحيح».
كان يعظ أصحاب: «نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهن ألسنتكم عن النطق به. فإن المستمع شريك القائل».
الشافعي الى الرغم من خلافه مع أبي حنيفة إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ قال: «سيدهم».
ولعل أروع محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب.
قال محمد للشافعي: «بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب». فقال الشافعي: «أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المنارة فإني أجلك عن المناظرة».
فسأله: «ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها بناء أنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة أقام شاهدين على أنها ملكه؟».
قال الشافعي: «أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي، وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه».
قال محمد: «فلما تقل في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينته ووصلت السفينة الى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين. أكنت تنزع اللوح من السفينة؟».
قال الشافعي: «لا».
قال محمد: «الله أكبر.. تركت قولك! ثم ما تقول في رجل غصب خيطا فجرحا بطنه فخاطوا بذلك الخيط تلك الجراحة. فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟».
قال الشافعي: «لا».
فقال محمد: «الله أكبر. تركت قولك».
فقال الشافعي: «أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه (لوح صاحب السفينة) وأراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونهما في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟».
قال محمد: «يحرم عليه.
فسأل الشافعي: «أرأيت لو جاء مالك الساحة أراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟».
فأجاب محمد: «بل مباح».
قال الشافعي: «رحمك الله فكيف تقيس مباحا على محرم؟».
قال محمد: «فكيف يصنع بصاحب السفينة؟».
قال الشافعي: «آمره أن يسيرها الى أقرب الساحل، ثم أقول له إنزع اللوح وادفعه لصاحبه».
قال محمد: فقال النبي (صلى الله عليه): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».
قال الشافعي: «من ضره؟ هو ضر نفسه».
ثم سأل الشافعي: «ما تقل في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادات أشراف خطباء. فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له ماذا تعمل؟».
قال محمد: «أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل».
قال الشافعي: «أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا أن تقلع البناء وترد الساحة لمالكها أو أن تحكم برق هؤلاء الأولاد؟».
فكست محمد بن الحسن، أما تلاميذه في الحلقة فمالوا الى رأي الشافعي.
***
أقام الشافعي في بغداد أعواما قلائل، استوعب فيها كل معطياتها من العلوم الطبيعية والدينية والرياضية والفقهية، وناظرا فقهاءها، وقرأ عليه كتاب الإمام مالك «الموطأ»، ودافع عن أهل الحديث، وأفاد من أهل الرأي.
وشعر آخر الأمر بالشوق الى مكة، وبأنه قد جمع من المعارف ما يؤهله لأن يجلس في المسجد الحرام مجلس المفتي والأستاذ وشيخ الحلقة.
وكانت مناظراته قد أعجبت الرشيد، فعرض عليه أن يوليه القضاء في أي مكان يريد، أو يجعله واليا على أي قطر يختاره.
ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، أن يعد الى مكة ليعيش بين أهله من قريش وينشر ما تعلمه بين الناس.
وأذن له الرشيد.
عاد الشافعي الى ام القرى. فأتخذ له مجلسا للفتوى والتدريس في فناء بئر زمرم بجوار مقام إبراهيم خليل الله... وهو المجلس الذي اختاره من قبل في عصر الصحابة، عبد الله بن عباس مفسر القرآن الكريم، وأحد الذين حفظوا فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، وكان نائبه على الحجاز عندما كان الإمام علي كرم الله وجهه أميرا للمؤمنين. يحكم الدولة الإسلامية الغنية من الكوفة في بيت هو من أدنى بيوت المسلمين.
عاد الشافعي من بغداد، لا يزال في أذنيه طنين من ضجيج المناظرات.. وقد أتاح له مقامه الطويل هناك أن يقترب من أهل الرأي، وأن يقرب أهل السنة من الرأي.. وأن يقنع بعض أهل الرأي بما عند أصحاب السنة..
وما زالت صور من محاوراته مع محمد بن الحسن تلح عليه..
في حواره مع محمد بن الحسن شيخ أهل الرأي في العراق بعد الإمام أبي حنيفة كان الشافعي يحاول أن يقرب المذهبين، وكان مفتونا بذلك الطريق الوسط الذي اختطه الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب الرأي وأهل السنة.
إنه لا يستطيع اليوم أن ينحاز الى أي الحزبين.. فكيف استطاع الإمام الليث أن يجد هذا المنهج الوسط؟
كانت آراء الليث قد انتهت الى الشافعي منذ كان في اليمن، ولكنه كان في حاجة الى المزيد، ولا بد من السفر الى مصر ليتلقى العلم من إمامها الليث ابن سعد.
ولكن أهله في مكة أم القرى يستبقونه.
وإذن فليقم في مكة أم القرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وحتى يؤذن له بالسفر الى مصر.
لقد أصبح الآن يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل للعلم.
وأنفق نصف ما حمله من العراق على فقراء مكة، تنفيذا لوصية أمه: أن يتصدق على الفقراء بنصف ما معه كلما قدم الى أم القرى.
وهاهو ذا الآن إمام يجلس للتدريس والإفتاء. ثابتا، راسخا، مطمئن النفس.
وجعل محله في المسجد الحرام ساعات قليلة بعد الفجر. أما بقية النهار والليل فقد خصصه للتأمل، ولاستنباط منهج في الفقه.
لكم هو نادم لأنه أضاع وقته، إذ قبل وظيفة في اليمن فدخل فيما ليس من شأنه على حساب ما كان ينبغي أن يحصل من معرفة، ويشيع من علم، وعلى حساب طلب الحقيقة والحكمة.
على أن الوقت لم يفت بعد، وعليه أن يعوض ما فات.. إنه لعمل النهار والليل إذن..

يتبع