عرض مشاركة مفردة
  #9  
قديم 28-11-2003, 10:30 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

تابع إلى مصر


وألف منذ تلك الزيارة أن يجلس في حلقتها فيسمع، ويقرأ عليها اجتهاداته.. وكان إذا أقعده المرض عن زيارتها أرسل يسألها الدعاء فتدعو له بالشفاء..
وبعد أن فرغ من أول زيارة للسيدة نفيسة سأل مرافقيه أن يصحبوه الى «تاج الجوامع» ـ فهكذا كان يسمى جامع عمرو إذ ذاك ـ فوجد الجامع يعج بحلقات الدرس، وشاهد عجيبا..! لم تكن كلها حلقات قرآن وحديث وفقه.. بل كانت فيها حلقات للقصص، واللغة، والشعر، وسائر فنون الفكر والمعرفة.. ما أروع انطلاق الحياة الفكرية هنا..! لقد كان من قبل يقول في حسرة:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ولولا الشعر بالعلماء يزري=لكنت الآن أشعر من لبيد
[/poet]

لكنه هنا يستطيع أن يقول الشعر بلا حرج في هذه البيئة الفكرية السمحة.
جلس للتعليم والإفتاء، وفي أول حلقة له بالجامع جلس القرفصاء على حشية وكان مريضا بالبواسير وتصلب في الأطراف فاراد أن يمد رجله كما تعود منذ مرض عملا بنصح الأطباء، ولكنه لم يفعل تحرجا منه، واحتراما لبعض أتباع مالك وأبي حنيفة.. كان أتباع أبي حنيفة يكثرون الفروض ويبحثون عن أحكام للوقائع المفترضة.. سأل أحدهم: «إذا حمل رجل قربة بها ريح نجس أينقض وضوءه؟». «هل انكشاف العورة ينتقض الوضوء». فأجاب الشافعي: آن للشافعي أن يمد رجله».
وجد تقاليد جديدة في الحلقات.. فالأستاذ لا يلقي الدرس على طلاب يستمعون، كما ألف من قبل وبصفة خاصة في حلقة الإمام مالك.. ولكن الأستاذ يبدأ درسه بكلام قليل، ثم يدير حوارا بينه وبين التلاميذ، ومن خلال المحاورات تنفجر المسائل وتنضح الآراء.
كانت هذه هي تقاليد المدرسة المصرية القديمة، وعليها تعلم فلاسفة الإغريق ومنها أخذوا أسلوبهم في المحاورات...
وعلى هذا النهج سارت المدرسة المصرية في الفقه الإسلامي.
واتبع الشافعي هذا التقليد حتى في درس القرآن والتفسير..
وأحاط به تلاميذ الإمام الليث وأطلعوه على ما حفظوه من شيخهم.. وكان يحسب أنهم هم الذين يلون القضاء، وأن إليهم أمر القضاء، ولنه وجدهم معزولين، يضطهدهم المتعصبون!
ووجد الحياة الفقهية تنازعها أنصار الإمام مالك وأنصار الإمام أبي حنيفة، والغلبة لأنصار الإمام مالك، فيهم مغالون يشتطون، حتى لقد يؤذون من يعلن الخلاف مع مالك من أتباع الليث أو أبي حنيفة.
وجادل الإمام الشافعي بعض هؤلاء المشتطين، وقال لهم إن الإمام «مالك» بشر يخطئ ويصيب. فانتفض أحدهم في وجه الإمام الشافعي، وسفه عليه، ووجه اليه كلمات بذيئة، وحمل الحاضرون هذا المتعصب السفيه وأخرجوه من المجلس، والشافعي مستمر في حديثه كأنه لم يسمع شيئا...!
وعرف الشافعي أن هذا السفيه اسمه «فتيان» وبعد انتهاء الدرس طالب تلاميذه أن يصفحوا عن ذلك السفيه..
ووضع الشافعي لنفسه نظاما لم يحد عنه. أن يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر بعلوم القرآن، فإذا انتهى منها جلس الى درس الحديث.. ثم يجلس بعد هذا مجلسا لم يجلسه من قبل في حلقة قط، ولكنه تمنى أن يجلسه، وهو مجلس علوم اللغة والشعر وشتى المعارف الإنسانية الأخرى... وفي هذا المجلس الأخير كان يعظ من يستمع إليه أو يحاوره: «إنما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا.، فأما الذي هو علم الدين فهو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب، فلا تسكن بلدا ليس فيه عالم يفتيك عن أمر دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك».
في مجلسه الثالث كان إذا لم يجد بين الحاضرين من يحسن مذاكرته في الشعر والأدب والعلوم الإنسانية طلب من صحبه أن يبحثوا له عن أدباء مصر وشعرائها وعلماء المعارف الإنسانية، فما يزالون يتذاكرون حتى تحين صلاة الظهر، فيصلي بهم، أو يصلي خلف واحد منهم، وينصرف الجميع.
ويعود الشافعي الى داره.. وقد يصطحب بعض صحبه للغداء معه، لم ينصرف الى العمل..
وقد تعلم من أستاذه مالك بن أنس أن يحمل الناس على احترام خلوته للعمل عكوفه عليه.. فالعمل عبادة يجب ألا يخلطها بشيء آخر، ويجب ألا يسمح لأحد بإفسادها، فالعلم لا يأتيك بعضه إلا أن تؤتيه كلك..
حتى إذا فرغ من العمل وصلى العشاء، جعل جزءا يسيرا من الليل لاستقبال الضيوف، فيسمرون معا، ويتذاكرون الشعر والأخبار، وبعض ما يسري عن النفس في سمر لطيف عذب.
وكان حسن الإصغاء، محبا للطرائف، وقد أعجبته الملح المصرية، فهو يطلب حكايتها من أصحابه المصريين معلنا إعجابه بظرف أهل مصر..
هو نفسه يحكي الطرائف مما شاهد في رحلاته الطويلة..
من ذلك أنه رأى في المدينة المنورة أربع عجائب لم يرها في بلد قط.. رأى جدة عمرها إحدى وعشرون سنة!! وقاضيا حكم بإفلاس تاجر في دين قيمته أربعة أرطال من نوى البلح!! وشيخا عمره تسعون عاما يدور نهاره حافيا راجلا قائما يعلم القيان الرقص والغناء، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا.. واليا كان صالحا طيبا فقال: «ما لي لا أرى الناس يجتمعون على بابي كما يجتمعون على أبواب الولاة؟». قالا له: «لأنك لا تضرب أحدا ولا تؤذي الناس» فقال: «هكذا؟! علي بإمام المسجد». فأحضروا له إمام المسجد فأمسكوا به على باب الاولي، وجعل الوالي يضرب الإمام والإمام يصرخ «أصلح الله الأمير» إيش جرى.. «أي شيء جرى؟» وظل الإمام يصرخ والوالي يضربه حتى اجتمع الناس.. وسرى عن الوالي وطابت نفسه، فقد اجتمع الناس على بابه!!
كان مما يستعيد الشافعي روايته من ملح مصر، أن رجلا كان له غلام غبي، فقال له: «اذهب الى السوق فاشتر حبلا في طول خمسة عشر ذراعا». فسأله الغلام: «في عرض كم؟» قال الرجل: «في عرضك!! في عرضك!!» وغاب الغلام ساعة وعاد بلا حبل يقل: «لم أجد حبلا في عرضي».
***
اطمأنت الحياة بالشافعي في مصر. وجاء رمضان فصلى التراويح بالسيدة نفيسة، ولاحظ أن عددا من النساء يحضرون درس الفقه، منهن بعض زوجات تلاميذه وأخواتهم وبناتهم. وفي حلقة الفقه بالجامع جاءه رجل شاب كان قد طلق امرأته ثم ندم، وأرجعها في رمضان وقبلها في النهار وهما صائمان، اتجه الرجل الى الإمام الشافعي قائلا:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
سلوا المفتي المكي هل في تزاور=وضمة مشتاق الفؤاد جناح؟
[/poet]

فأدناه الشافعي منه وقال مبتسما:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أقول معاذ الله أن يذهب التقى=تلاصق أكباد بهن جراح

[/poet]

فأحاط بالرجل عدد من المتعصبين وسألوه، ليجعلوا من القصة مأخذا وسبيلا على الشافعي.. فزعق فيهم الشاب: «يا ناس.. أسأله عن امرأتي.
وحكى لهم حكاية إرجاعها وتقبيلها في نهار رمضان.. فالإمام الشافعي يرى أن قبلته لم تذهب تقاه وصيامه.. وهذا هو رأي إمامهم مالك نقلا عن عمر ابن الخطاب عن امرأته عن أم سلمة أم المؤمنين، عن رسول الله (صلى الله عليه)..
وفي هذه البيئة الفكرية المتحررة على الرغم من شغب المتزمتين استراح الإمام الشافعي في مصر، فانبسطت نفسه، وانطلقت أفكاره. وأخذ يذيع شعره وكثير منه مشهور مثل قوله:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وإني لمشتاق الى أرض غزة=وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربتها=كحلت به من شدة الشوق أجفاني
[/poet]

وقوله:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
كل العداوات قد ترجى مودتها=إلا عداوة من عاداك عن حسد
[/poet]

وقوله:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
حسبي بعلمي أن نفع=ما الذل إلا في الطمع
ما طار طير وارتفع=إلا كما طار وقع

[/poet]

وقوله:

[poet font="Simplified Arabic,5,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أنا إن عشت لست أعدم قوتا=وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي=نفس حر ترى المذلة كفرا
[/poet]


ولكن الإمام الشافعي على الرغم من السماحة التي بهرته في مصر، كان يعاني من ضيق أفق المتعصبين وعدوانهم على الناس.. وكان هذا النفر ينتسب الى المذهب المالكي ويسيئون بسلوكهم الى سمعة أستاذه وشيخه العزيز عليه.. فنصب نفسه مفندا لدعاواهم.
مر في الطريق بفقيه من هؤلاء يمسك برجل ويتهمه في دينه، والأخير يهزأ بالفقيه.. وأوشكا أن يتضاربا، فخلصهما الشافعي وقال: ما خطبكما؟ فقال الفقيه: «رأيته يبول واقفا». قال الشافعي: «وما في ذلك»؟، قال: «يرد الريح من رشاشه على بدنه فيصلي به»، فسأله الشافعي: «فهل رأيته أصابه الرشاش فصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟»، فقال: «لا.. ولكني أراه سيفعل». فضحك الشافعي وحاول أن ينصحه.. فغضب الفقيه، وعربد على الشافعي وسبه.. وتأمله الشافعي، فإذا هو «فتيان» الأحمق الذي سأل الشافعي حين قدم عما إذا كان ظهور العورة ينقض الوضوء، ثم شتمه بعد ذلك في جامع عمرو شتما منكرا.
وإن للشافعي مع «فتيان» هذا لشأنا..!