عرض مشاركة مفردة
  #10  
قديم 28-11-2003, 10:40 PM
الهادئ الهادئ غير متصل
جهاد النفس الجهاد الأكبر
 
تاريخ التّسجيل: Aug 2003
الإقامة: بلد الأزهر الشريف
المشاركات: 1,208
إفتراضي

تابع إلى مصر


وكان «فتيان» هذا يقود جماعة من المتعصبين، يرهب بهم أتباع الإمام الليث لأنه خالف الإمام مالكا ابن أنس، ويرهب بهم من يلتفون حول الإمام الشافعي منذ اكتشف الشافعي أن الفقه المصري يختلف مع الفقه المالكي في كثير من الأصـول الفروع، فأخذ الشافعي برأي إمام الفقه المصري.. الليث ابن سعد.
شرع المتعصبون لمالك يتهمون الشافعي بأنه لا يعرف الحديث، فرد عليهم أنصار الشافعي بشهادة أحمد بن حنبل وهو من أكثر الفقهاء انتصارا للحديث: «ما من أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا للشافعي عليه منة. ذلك أن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى قدم الشافعي الى العراق، وأقام الحجة عليهم!».
وعلى الرغم مما لقى الشافعي من المتعصبين، فقد ظل يتابع حلقات الحوار والدروس، والناس يفدون اليه من مختلف الأقطار والأمصار، مفتنين بطريقته في الإلقاء والجدل، وببلاغته حين يخطب الجمعة حتى أسموه «خطيب الفقهاء».
ومرت به الشهور في مصر، وهو ينتظر مقدم صديقه وتلميذه أحمد بن حنبل.. وكثيرا ما كان يشرد ويقول: «وعدني صاحبي أحمد بالقدوم الى مصر».. ويتمنى وينتظر..
على أن الواقع المصري الجديد، وما اطلع عليه الشافعي في مصر، من آراء وطرائق للاجتهاد، جعله يعيد النظر في كل ما كتبه من قبل.
لقد غير كثيرا من آرائه.
ومن أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في الماء.. فقد كان يرى كالإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء...
ولكنه في أرض النيل، تابع رأي الإمام الليث. في أن صاحب الأرض التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال.. أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الشرب وسقي الأرض بلا مقابل.
وشرع يراجع كتاب «الرسالة» مرة ثالثة ويصقل ما تضمنه من أصول الفقه.. بل أخذ يراجع كل ما كتب من قبل فأحرق بعضه.
ونظر في الآراء التي تابع فيها شيخه (مالك)، وعكف على فقه مالك كله يمحصه على ضوء ما تعلمه في مصر من فقه الليث..
فأعلن في خاصته أن الإمام مالك بن أنس يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل.. ونشر كتابا عن خلافه مع مالك في الأصول والفروع.. وقال إنه مع الليث في خلافه مع مالك!
ثم عكف على فقه أبي حنيفة يمحصه وانتهى من دراسته الى نقد الإمامين مالك وأبي حنيفة. «فمالك أفرط في رعاية المصالح المرسلة وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول..» وهكذا.
وانقطع الشافعي، يعيد كتابة «الرسالة» ويؤلف كتبا جديدة في الفقه، وينقح ويصوب فيما لم يحرقه من الكتب القديمة..
وجهد جهدا شديدا في هذا العمل..
وروى بعض أهله: «ربما قدمنا المصباح في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أكثر بين يدي الشافعي، كان يستلقي ويتذكر وينادي: «يا جارية هلمي مصباحا» فتقدمه ويكتب ثم يأمر برفع المصباح. ثم يعد بعد برهة فيطلبه.. هكذا». وسألوه: «لماذا لا تبقي المصباح فقد أجهدت جاريتك وأهلك؟». فقال: «الظلمة أجلى لفكر» فقد كان لا يحسن التأمل إلا في السكون والظلمة.
وبعد أن فرغ من كتابة فقهه كله أرسل الى صديقه أحمد بن حنبل أن يخبر الناس بترك كل ما كتبه الشافعي من قبل، وأن يأخذوا آراء من كتبه المصرية وأرسل إليه هذه الكتب المصرية. فلما نظر فيها أحمد بن حنبل أعجب بها وسأله أحد أصحابه ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب عليك أم تلك التي كتبها بمصر؟ قال أحمد: .عليك بالكتب التي ضعها بمصر ف"،ه لم يحكم ما كتبه قبل ذلك ولكنه أحكم كل ما كتبه بمصر».
اتجه الشافعي بالفقه اتجاها علميا جديدا، فهو يعنى بالقواعد الكلية ولا يضيع وقته في الفروع، فالكلي ينطبق على الجزئيات.
وانتهى في استنباط الحكم من غير النص، إلى الاتجاه إلى الإجماع كمصدر للأحكام، لكنه لم يشترط إجماع الصحابة كما كان من قبل.
والشافعي يطالب الفقهاء الولاة والقضاة بإتقان اللغة العربية، لكي يفهموا النصوص حق الفهم.. فيها نزل القرآن تبيانا لكل شيء هدى ورحمة وبشرى للمسلمين.. فمن لا يتقن العربية غير جدير بالنظر في الشريعة.. وه يعني بإتقان العربية إتقان علمها من نحو وصرف فقه لغة وبلاغة أدب وشعر.
ولقد حضر رجل من خرسان حلقة الشافعي في جامع عمرو فسأله: «ما الإيمان؟
فرد الشافعي: فما تقول أنت فيه؟.
فقال الرجل: الإيمان قول.
قال الشافعي: من أين قلت بذلك؟
قال الرجل: من قوله تعالى: (إن الذين آمنو وعملوا الصالحات) فصارت الواو فصلا بين الإيمان والعمل.
فسأله الشافعي: فعندك الواو فصل؟ قال: نعم.
قال الشافعي: فإذن كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول (رب المشرقين و رب المغربين).
قال الرجل: سبحان الله. أجعلتني وثنيا؟
قال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك بزعمك أن الواو فصل.
قد استطاع الشافعي وهو في مصر أن يتحرر في آرائه.. فألف كتابا عن قتال أهل البغي لعله لم يكن يستطيع أن يضعه في غير مصر!.
وقتال أهل البغي قائم على تفسير قوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله).
وقد رد هذا النص باقتتال المسلمين، إذا فئة منهم بغت على الأخرى..
وأهل البغي عند الشافعي هم معاوية بن أبي سفيان وجنوده الذين حاربوا أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب.
الشافعي يرى قتالهم واجبا شرعيا..
وكان بنو علي مضطهدين في حكم بني أمية، ظلوا كذلك في حكم بني العباس.. الحكم الذي عاش في ظله الإمام الشافعي.. فرأيه في أهل البغي يؤيد حزبا تحاربه الدولة..
لم يحفل بذلك وهو في مصر، واحتج في قتال أهل البغي في حكم الأسرى منهم بما صنعه الإمام علي في معركة الجمل ومعركة صفين.. فهو لم يقتل أسيرا منهم، ولم يقتل رجلا مدبرا عن القتال. وهو لم يغنم من أموالهم إلا السلاح والخيل الدواب. أي أدوات الحرب وحدها! والإمام علي لم يقتل مدبرا من أهل البغي لأنه ربما كان هذا المدبر بإدباره قد رجع عن البغي ونوى البيعة لأمير المؤمنين. ولم يكن قتال آل البغي دراسة تاريخية، بل دراسة فقهية لأن الأحزاب تتقاتل، ينبغي أن يتحدد حكم واضح في الأمر كله..
ولقد نقد بعض أصحاب أحمد بن حنبل شيخه الشافعي على كتابه (قتال أهل البغي) وقالوا إنه متشيع، فقال أحمد: سبحان الله.. وهل ابتلي أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب!؟.
مرة أخرى يضطر الشافعي الى الإشتغال بالسياسة.. ولكنه في هذه المرة يضطر الى الاشتغال بالسياسة لا بحكم الوظيفة أو المنصب، بل بحكم انشغاله الكامل بالفقه والعلم..! وقد أتاحت له البيئة الثقافية في مصر أن يفكر ويقول ويكتب في طلاقة وأمن.
***
وفي مصر تحدث الشافعي عن الشورى ومكانتها في الإسلام، واعتبرها فرضا على الحاكم والمحكوم.. بها أمر الله ورسوله.. كان الرسول (صلى الله عليه) يقول فيما لم ينزل فيه حي «أشيرا علي أيها الناس».. ما كان في حاجة الى مشورة، ولكنه أراد أن يسن لولي الأمر من بعده. وروي عن أحد الحكماء أنه قال: «وما أخطأت قط، إذا حزبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون.
وعلى الحاكم أن يستشير أهل الرأي، يأخذ برأيهم فيما فيه مصالحهم.
ومن العدل أن يحسن اختيار الولاة، فقد قال الرسل(صلى الله عليه): «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين».
والشافعي يرى أن الحاكم واجب الطاعة ما دام الناس قد اختاروه باختيار حر، بيعة لا إكراه فيها ولا زيف، وإن كان هذا الحاكم قد غلب على الأمر انتزعه من صاحبه.. وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية، فإن رأوا في أمر الحاكم ما يخالف الله رسوله فلهم ألا يطيعه.
واستند في هذا الى ما كان بين عثمان وعلي، فقد هاجم أبو ذر الكانزين وعاب سلوك معاوية وجماعته، فشكاه الى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فنهاه، فلم يسكت أبوذر، فنفاه الخليفة الى مكان منقطع بالصحراء اسمه «الربذة» وأمر بأن يتجافاه الناس، غير أن عليا بن أبي طالب صحب أبا ذر، وودعه كما ودعه عدد من الصحابة.!
فقال عثمان لعلي: «.... ألم يبلغك أني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشيعه؟». فقال علي: «أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا امرك؟ بالله لا نفعل».
ثم إن الشافعي اهتدى الى أن عمل أهل المدينة ليس حجة على المسلمين في كل البلاد، فقد انتشر الصحابة في كل الأقطار وعلما الناس، قد وجد في عمل أهل مصر ما هو أدنى للعدل وروح الشريعة، كاستحقاق الزوجة لنصف المهر عند الطلاق.
***
بهذه الآراء الجديدة جلس الإمام الشافعي يعلم الناس ويحاورهم في حلقاته الثلاث: حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الادب المعارف الإنسانية..
وفي هذه الحلقات لخص قواعد أصل الفقه بقوله: «نحكم بالكتاب والسنة المجمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا حكما بالحق في الظاهر والباطن، نحكم بنسبة رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها أي الاحاديث التي يرويها آحاد، ونحكم بالإجماع ثم القياس وه أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورية لأنه لا يحل القياس الخبر موجد».. وفي الحق أن الإمام الشافعي كلف نفسه من المشقة ما لا تحتمله طاقة بشر.
فقد أعاد في نحو خمسة أعوام كتابة ما ألفه في نحو ثلاثين عاما، وزاد على ذلك كتبا جديدة كتبها أو أملاها.
بلغ مجمع ما كتبه في مصر آلاف الصفحات، وجمع معظم ما ألفه في مصر في كتاب «الأم».
وشرع يدرس هذا كله في حلقاته، ويحاور فيه، وينصح مستمعيه ألا ينظروا في علم الكلام الذي يبحث في القدر والجبر وصفات الله، وأن يهتموا من علوم الدين بالفقه.
وقال: «إياكم والنظر في الكلام، فإن الرجل لو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها كما لو سئل عن رجل قتل رجلا فقال ديته بيضة، كان أكثر شيء ان يضحك منه ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب الى البدعة».
أجهده طول الجلوس للكتابة والتدريس فاشتدت عليه علة البواسير ومرض الأطراف.
ولعل أخطر وأحرج ما كان يدور فيه الحوار في حلقات الإمام الشافعي هو خلافه مع الإمام مالك، في مصر من الحمقى والمتعصبين من لا يطيقون أن يجهر أحد بالخلاف مع مالك.
وقد اجتمع بعض هؤلاء بزعامة الفقيه الأحمق «فتيان» وطرح مسألة خلافية؟ وساق «فتيان» أدلة مالك في المسألة، وساق الشافعي أدلته.. وظهر الشافعي على «فتيان» وأقحمه، فضاق صدر «فتيان» وانفجر حمقه وشتم الإمام الشافعي شتما قبيحا.
وكان «فتيان» هذا قد كرر العدوان على الإمام الشافعي، والشافعي يصفح عنه.
ولكن أصحاب الشافعي ذهبوا هذه المرة للوالي ورووا ما كان من امر «فتيان» مع إمامهم، وحقق الوالي الشكوى وشهد الشهود على «فتيان» ولكن الإمام الشافعي سكت حين سأله الوالي، فقال الوالي: «لو شهد الشافعي على فتيان هذا لقطعت رأسه».
وأمر الوالي بأن يضرب «فتيان» بالسياط، ثم طيف به على جمل، وقد حلقت لحيته وشاربه ورأسه، ومن أمامه المنادي ينادي: «هذا جزاء من سب آل رسول الله(صلى الله عليه)»
ولم يكن الإمام الشافعي سعيدا بما حدث..
عاد الى بيته مهموما، وغلبه نزيف البواسير، فقد بلغ به الجهد الذي بذله وأثر فيه الإنفعال.
وقال من حوله: إنه ليعرف علته، ولكنه يخالف فيها الطب. فقد كانت علته تتطلب منه الراحة وعدم إطالة القعود في الكتابة أو في الحلقات.
وزاره طبيب مصري، فتناظرا في الطب، فأعجب به الطبيب المصري، وتمنى عليه أن يشتغل بالطب فقال الشافعي ضاحكا وهو يشير الى أصحابه المنتظرين خارج غرفته: «هؤلاء لايتركونني».
وخرج الشافعي من داره بعد أيام الى حلقته من جديد.