عرض مشاركة مفردة
  #10  
قديم 06-07-2005, 09:29 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولا يقال إن هذا إيمان بالمجهول. فإنه ليس مجهولاً بل هو معلوم بصفاته، فهو إيمان بمعلوم وليس بمجهول. ولا يقال كيف يمكن تصور الأزلي وهو ما لا أول له مع أن الأذهان لا يمكنها تصور غير المحدود؟ لا يقال هذا لأن الأذهان حقيقة لا تتصور الأزلي وإنّما تدرك وجوده فقط. ولا يقال كيف يجبَر الإنسان على الإيمان بما لا يستطيع تصوره؟ لأن الذي يجبَر على الإيمان به إدراك وجوده إدراكاً قطعياً، والإدراك أتى من وجود المحسوسات. ولهذا لا يُطلب من العقل إلاّ إدراك الواقع المحسوس ليس غير.

وكذلك لا يُطلب من العقل الوصول إلى نتيجة غير النتيجة التي توصِل إليها العملية العقلية التي يقوم بها، فإن ذلك يستحيل الحصول عليه من نفس العملية، بل لا بد لها من عملية أخرى. فلا يُطلب من عالم الذرّة وهو يقوم بعملية عقلية لتحطيم الذرّة أن يصل من هذه العملية إلى الإيمان بوجود الله، لأن العملية العقلية التي يقوم بها لا توصِل إلى هذه النتيجة، وإنّما تحتاج إلى عملية أخرى، ولذلك لا يستغرب المرء أن يشاهد عقلية جبارة تقوم بأدق الأعمال وتصل إلى أضخم النتائج كعالِم الذرّة مثلاً ثم نشاهد هذه العقلية نفسها تذهب إلى الكنيسة لتصلي إلى خشبة، وتعتقد أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، وأن المسيح ابن الله، أو ما شاكل ذلك. لا يُستغرب هذا لأن هذه العقلية لم تُستعمل للوصول إلى وجود الله وصفات الألوهية وإنّما استُعملت لتحطيم الذرّة وعُطلت فيما عدا ذلك. وكذلك لا يُستغرب أن يوجَد عالم يبحث في النبات ويشاهد دقة الخلق وحكمة الصنع ومع ذلك لا يصل إلى وجود الله بل يظل ملحداً ينرك وجود الله. لا يُستغرب ذلك لأن العملية العقلية التي كان يقوم بها وهو يشاهد النبات كانت للوصول إلى معلومات فقط. والوصول إلى أن هذه الدقة في الصنع لا تحصل صدفة، ولا تكون إلاّ من مبدع تحتاج إلى عملية أخرى لم يقم بها هذا العالم وظلت معطَّلة عند البحث في وجود الخالق. ولذلك كان عدم وصوله إلى الإيمان من العملية العلمية أمراً غير مستغرَب. وكذلك حين يُستعمل العقل لفهم نص تشريعي لا يتطلب في تلك العملية أن يصل إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا، بل المطلوب منه فقط أن يصل اى ما يدل عليه هذا النص من معالجة، لا إلى كون هذه المعالجة صحيحة أم لا. والوصول إلى أن هذه المعالجة صحيحة أم لا يحتاج إلى عملية عقلية أخرى يكون العقل هو دليل المعالجة وليس النص، بغض النظر عن كون هذا النص تشريعاً من الله أو تشريعاً من الإنسان. فالعقل حين يبحث مادة في القانون المدني إنّما يُطلب منه الوصول إلى ما تدل عليه لا إلى كون ما تدل عليه صحيحاً أم لا، فإذا أريد معرفة ما تدل عليه صحيحاً أم لا يحتاج إلى عملية أخرى وهي البحث في المعنى الذي دلت عليه لا في النص الذي دل على المعنى هل هذا المعنى صحيح أم لا، وحينئذ يكون العقل هو الدليل على المعنى وليس النص، وفي حالة البحث في معنى النص يكون النص دليلاً على المعنى وليس العقل.

هذا هو الأمر الحتمي في استعمال العقل. وعليه فإن العقل حين يُستعمل في الإسلام للوصول إلى نتائج يجب أن يفرَّق بين استعماله في العقيدة للوصول إلى الإيمان، وبين استعماله في الأحكام الشرعية للوصول إلى فهم النصوص الشرعية. فحين يُستعمل العقل في العقيدة تكون النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى أن هذا الفكر صحيح أم خطأ، لأنه يكون العقل حينئذ دليلاً على صحة الفكر أو خطئه. أما حين يُستعمل العقل في الأحكام الشرعية فإن النتيجة المطلوبة منه في هذه العملية هي الوصول إلى معرفة الفكر الذي يدل عليه النص ما هو: هل هو فكر كذا أم فكر كذا أم ماذا؟ فالمطلوب منه ليس الحكم على الفكر الذي دل عليه النص بأنه خطأ أم صواب، بل المطلوب منه هو: ما هو الفكر الذي دل عليه هذا النص، وذلك لأن الدليل على الفكر في هذا هو النص وليس العقل. وعلى ذلك فإن وظيفة العقل في فهم النصوص الشرعية هي الفهم ليس غير. فلا يحكم بصحة الأحكام التي دلت عليها أو فسادها لأنه ليس دليلاً على الأحكام بل أدلتها هي النصوص الشرعية، وما دلت عليه النصوص الشرعية من أدلة، ولأن المطلوب منه هو فهم النص لا الحكم على صحة ما فيه أو خطئه.