عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 18-11-2003, 01:20 PM
حسام الدين حسام الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
المشاركات: 89
إفتراضي

البغــاء: قطاع هامشي، منظم ومُقنن

مؤسَّسـة "مـزوار"

تأليف: عبد الحميد الأركش

ترجمـة: محمد أسليــم
تقديـــم

يقف الفراغ الملاحَظ في الوثائق التاريخية وراء فكرة واسعة الانتشار، حتى وسط الرأي العالِم، تقول بأن تقنين الدعارة في تونس يعود إلى قيام الحماية الفرنسية بعد سنة 1881 أو يرتبط - على أبعد تقدير - بالتأثيرات الأوروبية في الوصاية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بيد أنه تبعا لاستقصاء أولي بات يتأكد أكثر فأكثر أن البغاء المتساهل بشأنه، بل وحتى المقنَّن، هو ظاهرة قديمة جدا وتعود في المغرب الحديث على الأقل إلى بداية الفترة العثمانية. ربما يجب توضيح أن الأمر هنا يتعلق بشكل مقنن من الدعارة ينظم في أحياء خاصة أو في بيوت لا يجب مع ذلك الخلط بينها وبين الدار المغلقة من النوع العصري والتي قامت داخل الوصاية مع الاستعمار.

كانت الدعارة السرية أو التلقائية وحتى المقنعة دائما موجودة بأشكال مختلفة في قاع الأوساط الحضرية كما في الحريم والإقامات الخصوصية للأرستقراطية الحضرية المعروفة بميولها الصريحة للحياة المَدَنية والفاسقـة.

تزخر فتاوي الونشريسي بمعلومات وقضايا غالبا ما تتعاطى فيها النساء للدعارة العلنية أو السرية[1]. كما تشهد رحلات الأوروبيين، والفرنسيين بالخصوص انطلاقا من القرن 18، بتقنين للبغاء الأنثوي بطريقة صريحة في أغلب الأحيان، وغير مباشرة ف يبعض الأحيان.

لقد تمَّ تسجيل الظاهرة في مدينة الجزائر منذ القرن 16، إذا وصلتنا شهادات عن كيفية تنظيم هذا النشاط واندماجه في قضايا الضرائب العثمانية. ففي كتاب أ. دشين حول البغاء في مدينة الجزائر المنشور سنة 1853، وصف المؤلف بتفصيل تنظيم هذه المهنة. وضمن فقرات عديدة مخصصة لهذا الوصف، نقرأ بالخصوص: «كان القاضي المسمى مزوار هو الذي يقوم بعملية التسجيل من خلال إثبات أسماء البنات العموميات وجنسيتهن. وكان دائما مغربي هو الذي يشغل هذا المنصب الذي وإن كان يذر على صاحبه أموالا طائلة، فإنه يعد من أبشع المهن، ذلك أن هذا المغربي نفسه كان يقوم أيضا بوظيفة الجلاد. ومن ثمة يشنق ويخنق أو يغرق المجرمين من الجنسين...»[2].

أن يقوم المسؤول العام للشرطة شخصيا بمراقبة هذا القطاع، فهذا يبدو أمرا عاديا بالنظر إلى كون الدعارة دخلت على الدوام في اختصاص شرطة الأخلاق. لكن ما يبدو لنا خاصّا ودالا معا في الوضعية التي نحن بصددها هو دمج وظيفتين: وظيفة «حامي» العاهرات، ووظيفة الجلاد الذي يمكنه، بالتالي، أن يشنقهن في أية لحظة بمنحهن الوضع الاعتباري «للزانيات». وإذا علمنا أن التمييز بين الوضعين الاعتباريين [العاهرة والزانية] في الفقه الشرعي غالبا ما يصعب تبينه بدقة، اتضح أن المجال كان مفسوحا لمزاولة كل أشكال الاعتباط والشطط.

كيف كان هذا الموظف السامي للدولة العثمانية يزاول مهمته؟ بحسب المصادر نفسها، كان يملك قائمة بأسماء النساء العموميات اللواتي كانت الجميلات منهن تدفعن له غرامة شهرية تصل إلى 11 فرنكا (ما يعادل 2 دورو إسبانيين في تلك المرحلة) فيما لا يتلقى من الأخريات سوى نصف هذا المبلغ.

لا تذكر المصادر، للأسف، معايير للجمال واضحة ودقيقة، وهو عنصر قد يكون نفيسا لدى محاولة إعادة تكوين، ولو جزئيا على الأقل، الأذواق الجمالية وملامحها في ذلك العصر. لكن تقاطع التقديرات والأحكام المختلفة بخصوص الجمال الأنثوي، المستمدة من مصادر أخرى، سيتيح لنا لا حقا أن نقف على هذا الجانب.

فيما يخص تونس، تعود بنا المصادر إلى الفترة الحفصية حيث كان المجتمع الحضري يعرف أشكالا خاصة من البغاء الأنثوي وحتى الذكوري متمثلا في المخنثين. كانت تونس العاصمة الحفصية معروفة في مجموع أنحاء الممكلة «كمركز كبير للفجور»[3].

لقد قبلت الدولة الحفصية أن تدمج في نظامها الضريبي المداخيل المتأتية من هذه الأوساط، وبالتالي وجود مثل تلك الأنشطة في الحاضرة.

من الصعب إعادة رسم صورة دقيقة جدا لتطور البغاء عبر مختلف العصور. لكن فحص مختلف المصادر يتيح لنا العثور على هذا النشاط بطريقة شبه متواصلة وبأشكال تنظيمية مَوروثة من الحقبة الحفصية. ويبقى أن هذه الأشكال ستدعى للتطور لاحقا في اتجاه بلورة أفضل وإدماج أفضل.

يثبت المؤرخ التونسي ابن أبي ضياف علاقة التنظيم في الفترة العثمانية. ففي معرض الحديث عن وظيفة مزوار وعلاقته بالبغاء، يَعودُ المؤلف إلى المذهب الحنفي الذي أدخله العثمانيون إلى إفريقيا الشمالية، وهو يعتبر أكثر ليونة من المذهب المالكي المنتشر في مجموع أنحاء المغرب العربي[4].

في الواقع، كان المذهب الحنفي أكثر تسامحا بكثير من المذهب المالكي بخصوص بعض الممارسات مثل «زواج المتعة» الذي لم يكن في الحقيقة سوى شكل مقنع من البغاء المتساهل معه في الوسط الإسلامي. في هذا الصدد، يمكننا تقديم فرضية أنه بنوع من المواربة لهذه الممارسة، الخاضعة مع ذلك القواعد والضوابط، كان البغاء يتمتع بحق الإقامة في مدينة إفريقيا الشمالية في ظل احتلال الأتراك الذين كانوا كلهم على المذهب الحنفي. سنجد إذن هذه الدعارة المقننة في القرن 17 في غمرة الفترة العثمانية.

في الكتاب الصادر حديثا لبول صباغ حول تونس في القرن 17، يذكر المؤلف أشكال التنظيم والتقنين التي تذكرنا بنظيرتها في مدينة الجزائر، ويمكننا أن نقرأ أن «... النساء العموميات كانت تخضع لمراقبة صارمة. كان ملازم أول بالشرطة يسمى مزوار يقوم بدور «بنات المتعة» اللواتي كنَّ يدفعن ضريبة على قدر جمالهن وسنهن، وكان يعاقب بشدة اللواتي كن يتاجرن بجمالهن دون الحصول على ترخيص بذلك»[5].

وبخصوص القرن 18، تسجل الظاهرة نفسها بنمط التنظيم نفسه، إذ نقرأ في مذكرات سان جرفي، بالخصوص، شهادات بليغة: «كل شيء منظم»، بما في ذلك متعة البنات العموميات. فهن لا يستطعن ممارسة البغاء إلا إذا سجلن أنفسهن لدى تركي يؤدي [بدوره] من هذه الـجباية الضريبية 4000 بياسترة للباي. وصاحب المكوس هذا يستخلص حقا من كل واحدة من هذه النساء ويصب جام غضبه، عن طريق السجن والعقاب، على اللواتي يباغثهن وهن يمارسن هذه المهنة الدنيئة بدون ترخيص»[6].

وبذلك لم يكن للمال رائحة» عند دولة الباشوات والبايات بتونس كما في الجزائر، وكانت الأهمية الضريبية للدولة كانت تبدو في مقام أسبق من تصور النظام والتوازن الأخلاقي الذي يدافع عنه علماء الحاضرة الإسلامية. لكن بتعميق التحليل سنرى أن معارضة الفقهاء هاته، كانت مجرد نسبية، بل وظاهرية لا غير، وأن تنظيم البغاء كان يساهم كذلك في الانشغالات الأمنية وفي نظام السلطة السياسية.

في مذكرات سان جرفي نفسها، وفي فصل يتحدث عن الطاعون الذي اجتاح تونس عام 1744، نقف على شهادة حية حول الدعارة الأنثوية، وردت في معرض الحديث عن القنصلية الفرنسية بالمدينة: «بعد مضي وقت قليل عن هذا الطاعون، جرَّ طيشُ بضعة شباب فرنسيين متاعبَ على حياة جميع مواطنيهم؛ إذ عاد هؤلاء الشباب المتهورون ليلا إلى الفندق مرفوقين بعاهرات مُسلمات، فكان هذا وحده كافيا لتأليب قسم من السكان عليهم. هجمت على أبواب الفندق عصابة من المتزمتين الذين اقتحموه بقوة، واقترفوا فيه كل أشكال الشطط والتعدي. ولتهديء سعارهم، فقد تطلب الأمر رشهم بأيادي مملوءة بالذهب»[7]. بعيدا عن المبالغة التي تنطوي عليها هذه الشهادة، فإنها تطرح بشكل غير مباشر مشكلة الوضع الاعتباري للعاهرة المسلمة وتصورها من قبل الجماعة.

بما أنها مقصاة ولم يعد لها أي ارتباطات معلنة، فإنها لا تعود تلطخ الشرف إطلاقا ولا تلحق مَسّا بالهوية الأخلاقية للجماعة التي تنحدر منها. والوضع الاعتباري للعاهرة نفسه يضعها على هذا الصعيد في موقع من الحياد. فهي تحديدا المرأة التي تمنح نفسها عموميا لأجل النقود دون أن تختار الشريك الذي لا يكون عادة سوى زبون عابر بين آخرين عديدين. لكن ما يلاحظ في هذا السياق الخاص أن الأمـرَ كان بخلاف ذلك. فالعاهرة المسلمة كانت المجال المحفوظ للمسلمين وحدهم، وبذلك كان يمنع عليها منعا قاطعا كل اتصال مع مسيحيين أو يهود، وإلا فإنها تتلقى عقوبات شديدة.

لذا كانت العاهرة تكف في بعض الأحيان عن أن تكون مُدرَكة باعتبارها موضوع لذة محايد لا هوية له، وكان «يعاد إدماجها» في الجماعة على نحو ما يتم مع كل عنصر محدَّد الهوية. وهذا يطرح مشكلة تمثل العاهرة وصورتها في الذهنية الجماعية المسلمة. نظرا لضرورة حمايتها من مراودات المسيحيين ورغباتهم، فإنها كانت تشارك بصفتها امرأة في الحفاظ على شرف الجماعة أو تهديده تماما كما تشارك كل امرأة في شرف العائلة. ومن ثمة، فإنه لم يكن يُنظر للعاهرة باعتبارها بغية، أي موضوعا للاحتقار والشفقة، إلا داخل الجماعة.

رجوعا إلى تنظيم الدعارة وتقنينها، نسجل وفرة الشهادات الخاصة بأشكال الرقابة التي كانت تقيمها الدولة.

تتفق أغلب المصادر على حضور مزوار في جميع المستويات، وبذلك يخامرنا الانطباع بأننا أمام قطاع تحتكره الدولة التي تحدِّد أسعار البنات وتقسيمهن وتصنيفهن بكل أشكال الشطط والتجاوزات التي يمكن أن نتخيلها.

نقرأ على الخصوص «أنه كان يُرخَّصُ له عددا من المرات في السنة بتنظيم نوع من الاستعراء الكرنفالي لتلك النساء في حفلات رقص عمومية، كان يستأثر منها بجميع الأرباح»[8]. وتذكرنا هذه الحفلات الراقصة العمومية ذات الطبيعة الدنيوية ببعض الاحتفالات الشعبية القديمة قليلة الشيوع في التقاليد الإسلامية المعروفة، وتدعونا إلى التفكير في أصلها وعلاقتها بعالم الهامشية والبغاء.

في كتاب المؤنـس يصف ابن أبي دينار، وهو مؤرخ تونسي شهير عاش في القرن 17، حفلا ربيعيا ينظم مرة واحدة في كل عام، ابتداء من فاتح ماي، في ساحة عمومية تسمى ساحة الوردة، وتقع على مقربة من أحد الأبواب الأساسية للمدينة: هو باب الخضراء. يتحدث المؤلف عن هذه العادة باحتقار واندهاش في آن واحد، إذ يقول ما مضمونه[9]: «بعد عام 1050 هـ.، عرفتُ إحدى ساحاتهم تقع بجانب باب الخضراء، ويسمونها "الوردة". وهي نقطة التقاء أهل الانحراف والفجور والبطالة. كان شعارهم هو الملاهي الدنيئة؛ نجد فيها المغنون، والراقصون والمشعوذون، وتباع فيها الفاكهة الجافة والحلويات. بعد صلاة عصر من كل يوم، يهجم أهل الفجور على الساحة حيث ينظمون فرجات أكثر بهجة من فرجات أيام العيد، وذلك على طوال 15 يوما كل عام. وقد انتقلت هذه العادة جيلا عن جيل إلى نظام الأستا مراد الذي منعها؛ لكن ما مضى وقت طويل حتى ظهرت من جديد ليمنعها الداي أحمد خوجة منعا نهائيا...»[10].