عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 14-09-2005, 11:40 AM
noureddinekh noureddinekh غير متصل
Banned
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2005
الإقامة: europe
المشاركات: 855
إفتراضي وداعاً ماهر.. وإلى لقاء في رحاب الخلود

راشد الغنوشي

رئيس حركة النهضة الإسلامية - تونس


9/11/2005


وداعاً ماهر.. وإلى لقاء في رحاب الخلود





ليس أثقل على المرء في هذه الحياة من الابتلاء بفقدان الأحبة والأصدقاء وبالخصوص إذا ابتلي بطول العمر -رحمة أو نقمة- فيظل المرة تلو الأخرى معرضا للفجيعة بحبيب أو قريب ولا يكاد جرحه يندمل حتى ينفتح جرح آخر.

لقد كانت الليلة الفاصلة بين السبت والأحد 11 و12 سبتمبر/ أيلول 2004 من أشّد ليالي حياتي حزنا.. لقد كنا (العبد لله والبشير نافع وماهر عبد الله ومن كان يلتحق بنا أحيانا من الأصدقاء..) كنا نجلس في ردهة الفندق كعادتنا نتبادل الحديث حول عموم قضايا الأمة وذلك على هامش انعقاد الأمانة العامة للمؤتمر القومي.

ولم ينفضّ اللقاء إلا بسبب اعتزامي لقاء أحد الصحفيين كان مقيما في فندق آخر، وكان ماهر الذي سخر في خدمتي منذ حلولي بالمطار –في تفان وكرم عجيب- وقته وماله وعلاقاته، يرتب اللقاءات وحفلات العشاء والغداء، قد تولى ترتيب اللقاء مع ذلك الصحفي، غير أننا ونحن نهمّ بمغادرة المكان رن هاتفي النقال لأجد على الخط قناة اقرأ الفضائية تعرض علي المشاركة في ندوة حول دروس حدث 11 سبتمبر/ أيلول وذلك بعد قليل.

فوافقت حرصا مني على اهتبال كل فرصة إعلامية في زمن الحصار، وهو ما حمل ماهرا على تغيير البرنامج: أن يتولى هو مهمة استقدام الضيف بدل ذهابي أنا، واقترح على الأستاذ نافع مصاحبته فوافق بحسبان أنه خلال مدة الذهاب والإياب أكون أنا قد فرغت من حديثي مع اقرأ.

وهكذا كان ترتيب البشر غير أنه كان لرب البشر ترتيب آخر لم أبدأ في تلمس خيوطه إلا بعد حوالي ساعة، إذ رن الهاتف بالغرفة لأجد على الخط صديقا مشتركا لي ولماهر يسألني في هلع عن أحوالي، وبدا كأنه فوجئ بأني أجيبه في اطمئنان أني بخير فسأل أين أنت؟ فأجبت أني بالفندق، فبدا وكأنه يحاول التلطف في الإخبار عن مصيبة، فذكر متصنعا الهدوء أن حادثا خطرا عرض لماهر ولبشير غير بعيد عن الفندق وأن حالة ماهر خطرة، فبادرت بمهاتفة ماهر على النقال وقلبي واجف يساورني أمل حائر أن يجيبني.

كان الهاتف لا يزال يرن ولكن بلا مجيب، وكررت العملية مرات دون جدوى فعدت إلى ذلك الصديق أستزيده من الأنباء، فذكر لي أنه ذاهب إلى قسم الطوارئ بالمستشفى، فطلبت إليه أن يصطحبني فما لبث أن أرسل إلي سيارة تنقلني إلى هناك، سرعان ما وصلت فبادر سائقها بتعزيتي في ماهر وأخذ يهدئ من روعي.

وما لبثت السيارة أن مرت بمكان الحادث حيث لا تزال سيارات الشرطة وجمع من الفضوليين هناك. أما سيارة ماهر المرسيدس التي كان يقودها وإلى جواره البشير فقد ذكروا أنها اصطدمت بشجيرة نخيل على حافة الطريق حولت جانبها الأيسر المجاور للسائق إلى قطعة عجين تكوّرت حول ماهر.

أمام قسم الطوارئ بالمستشفى كان عدد من صحفيي الجزيرة ومعهم السيد وضاح خنفر مدير القناة قد تجمعوا يغشى وجوههم سواد عظيم. طلبت مسرعا رؤية البشير فدلفوا بي إلى قاعة الجراحة حيث كان ممدا والأطباء محيطون به هذا يخيط جلدا منزوعا من رقبته في جانبه الأيسر وأخرى تميط الدم عن وجهه وآخر يطلعه على صورة للكسور التي في يده والتي تقتضي عملية، والبشير -واعيا- يسأله: هل يمكن لي بعدها الكتابة؟ فيجيبه الطبيب مطمّنا، فيعود يسأله هل يمكن لي الكتابة على الكومبيوتر؟ فيجيبه نعم، فيسأله أأنت واثق مما تقول قل لي الحقيقة كلها، هل هذا كل ما في الأمر؟ فيجيبه: نعم، فيرد: أنا أثق فيك، واصل عملك. ويسلّم أمره مرددا دعوات وأذكارا.

غير أنه تذكر أهله فطلب إلي أن أهاتفهم لتطمينهم حتى لا يسبق الخبر إليهم من طريق الإعلام، وأملى علي الرقم.

واضح أن البشير رغم أنه لا يتذكر شيئا من وقائع الحادث، إذ لم ينتبه من هول الصدمة إلا وهو في المستشفى، وهو بالتالي لم يبلغه ما أصاب رفيقه.

واضح أنه بخير وأن الله قد نجّاه وأن عقله والحمد لله لم يمس والباقي يجبر. وحتى لو نقص من بدنه شيء فلن ينال ذلك من عقله الكبير، وهي الوظيفة الأساسية المتدفقة عنده ثمارا يانعة والواعدة بالكثير باعتباره من خيرة العقول العاملة للأمة في زمننا هذا.

قبلت جبينه مودعا داعيا الرحمن الرحيم أن يحفظه ويرعاه، وطلبت إلى الطبيب أن يأذن لي في رؤية ماهر فوافق بعد تردد معلّلا إذنه -ونحن في طريق العودة- بأن رؤية أحباب الميت لميتهم تسهم في تفريغ كثير من شحنات الصدمة والحزن رغم قساوتها حتى بالنسبة للأطفال والنساء.. صحبني مع جمع من الإخوة يقودنا من ممر إلى آخر حتى دلف بنا إلى غرفة الأموات حيث كانت تنتصب ثلاجات كبيرة تحمل أدراجها أسماء محتوياتها من الجثث. سحب الحارس درجا منها كتب عليه اسم ماهر عبد الله.

كان مشهدا مروعا، إذ لم يبد من الجسم المسجى في لفافات بيضاء غير الرأس الملفوف هو الآخر لا يبدو منه غير أنف طويل أشم قائم فوق فم باسم محاط بشارب غاية في السواد. قبّلت الرأس وأنا أتصبر وما أكاد، وكذلك فعل من معي وهم يصبّرونني وغادرت المكان محني الظهر أدفع هيكلا يكاد يتداعى إلى السقوط.

وعلى أبواب المستشفى طلب إلي ضابط في الشرطة أن أدلي إليه بشهادتي حول الحادث رغم أني لم أشهده، وذلك لما علم بصحبة ماهر لي طوال الوقت منذ حلولي بالدوحة، وأني كنت ضمن برنامج رحلة الكارثة لولا أني تخلفت عنها في اللحظة الأخيرة بسبب مكالمة طارئة: سألني عن صلتي بماهر والبشير وعن الجهة التي كنا نعتزم الذهاب إليها وهل هناك أحد كان على علم ببرنامجنا؟ وهل هناك جهة في الدوحة تستهدفك؟ فنفيت ذلك.

ووقّعت على شهادتي متوجها إلى الفندق إلا أن الجهة المضيفة رأت أن لا أنام في نفس الفندق هذه الليلة إجراء احتياطيا، فصحبني أحد الأصدقاء إلى حيث يقيم في فندق متنازلا لي عن غرفته لينام هو في غرفة زميل له.

كانت ليلة عصيبة، ما أحسب أني مررت بمثلها، ولم يخفف من وطأتها غير التسليم والرضا بقدر الله والذكر والتلاوة. تفكرت في معنى الموت والحياة وكيف أن الموت قد أحاط بالحياة من كل جانب، وسد عليها كل منفذ حتى ما يكون شيء أقرب إليها منه، ولكنها تمضي في حبور تخطط وتبرمج لنفسها وكأنه غير موجود أصلا، أو أنها قد تعاقدت معه ألا يحضر أبدا أو أنها انتصرت عليه بالضربة القاضية، فما تضع لمفاجآته التي طالما تدخلت فحسمت الأمر، حسابا ولا تقديرا.

كم من برامج نحن سطّرناها لأيامنا وسنيننا ونسينا أن ندرج الموت ضمنها، بينما هو أثبت شيء فيها كما تتضافر على ذلك الشهادات المتكررة، مع أن مؤذن السماء لن يزال يرجنا ويذكرنا بحقيقة الموت والاستعداد للقياه باعتباره ثابتا من ثوابت برامجنا اليومية.

عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك في أهل القبور، فقال لي ابن عمر إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا وعد نفسك من أهل القبور (سنن الترمذي )، وذلك أن الحياة لا تأخذ مكانها المناسب إلا باستحضار الموت أبدا إلى جانبها، مما يفسح المجال أمام الحياة الأخلاقية والروحية فلا تطغى غرائز الأثرة والامتلاك والطمع في الخلود.

إن ذلك لا يعطل حركية الحياة والتنافس على الاكتساب ولكنه يخفف من لهيبها وسعارها المحموم، لا سيما والحياة هي التي تنتصر نهاية على الموت: حياة سعيدة بلا موت أو شقاء أو حياة شقية بلا موت.. وكل ذلك بحسب منهج التعامل مع الموت في هذه الحياة الدنيا.

لقد مثّلت الساعة( بين السابعة والثامنة) التي فصلتني عن الأخوين لأجد أحدهما يخيطه الأطباء والآخر في الثلاجة، صدمة بالغة وجرح غائر لا يمحى: لقد نمت علاقتي بالأخوين نمو علاقتي بقضية الوطن الحبيب السليب فلسطين، فهما من تربته الطاهرة وإرثه المقدس المجيد قد صيغا، د. بشير نافع من قطاع غزة رمز ملحمة المقاومة الأسطورية، وماهر عبد الله قادم من الجناح الآخر من الضفة الغربية محضن القدس الشريف. قد جمعتنا جغرافية وهموم المهجر البريطاني على امتداد زهاء عقد ونصف، جمعنا الإسلام ومشروعه الإصلاحي التجديدي العظيم، كما قربنا إلى بعضنا وضع الاغتراب.

شخصية بشير واضحة، شخصية المفكر الإسلامي الذي ينهل من الإسلام وتراثه الطارف والتليد متفاعلين مع وقائع وعبر التاريخ القديم والحديث وثقافة العصر وهموم الأمة.

أما ماهر عبد الله فنسيج متفرد هو الآخر في سياق الحراك الإسلامي المعاصر. لم يعرف له من تجربة حركية سياسية خارج السياق الإسلامي مناضلا ضمن النشاط الطلابي الإسلامي في المهجر منتقلا منه إلى النشاط الإسلامي العام في حقوله الواسعة، حتى جاء أوان رحلته الكبيرة للإطلال على الأمة الإسلامية من خلال قناة الجزيرة.

وأذكر يومها أن عددا من الجمعيات الإسلامية في لندن أقامت له حفل توديع، تخللتها كلمات رفاقه في المهجر تقرّضه في أسف على فراقه، فلما جاء دوري لاحظت وكأن الإخوة آسفون على فراقه ويتمنون بقاءه معهم بينما لا أحد أحدا منا إلا ويرجو أن تأتيه الفرصة يوما ليعود إلى وطنه أو حتى إلى قريب منه.

ثم لاحظت أن خطابهم يلقي في النفس وكأنهم يودعونه إلى الأبد بينما المسافات قد تقاربت، وما كنت أدري أن مشاعر الإخوة كانت صادقة فعلا تودع الأخ إلى الأبد.

ولكن ماهرا ولئن انتقل من وضع الاغتراب والخصاصة والبحث الناصب عن فرصة لنشر كلمة في صحيفة هنا أو هناك أو كتابة تقرير صحفي ربما قاده إلى أقصى الأرض إلى جنوب إفريقيا حيث توثقت صلتنا، ماهر ولئن نقلته الجزيرة من حال شظف العيش في لندن لأمثاله فإن ذلك لم يكن، كما لاحظ بعض أحبابه (ياسر الزعاترة) ليغل من يده المبسوطة بكرم لا يعرف الحدود، ولا من نهم على المعرفة لا يرتوي.

إن تلك النقلة أعطته الفرصة ليجوس خلال مدن وعواصم كثيرة ويحاور نخبة المفكرين في الأمة ويقيم علاقات دولية ويتحول إلى نجم ساطع في سماء الإعلام حتى افتتن به الكثير، غير أن ذلك لم يغير من شخصيته شيئا إذ ظل كما هو إسلاميا ملتزما ولكن دون أن يتنازل قيد أنملة عن ثوابت شخصيته المميزة كما عرفه كل من اتصل به.

شخصية مستقلة إلى حدود التطرف ناقدة النقد اللاذع إلى حد تحسب معه أن نقد الحركة الإسلامية ورموزها ومؤسساتها صناعته واختصاصه حتى لتحسبه يتلذذ بذلك لدرجة المشاغبة، فما وقف متولها بعظيم حاوره رغم احترامه الشديد لضيوفه، ولا تعطلت أدواته النقدية إعجابا بأحد.

وأشهد أني ما سمعته يبدي إعجابا بشجاعة شخصية مثل إعجابه بشخصية الشيخ يوسف القرضاوي ولكن دون أن يسلم أحد من نقده وسخرياته. وربما –وعلى نحو غير شعوري- كان ذلك جسرا من أهم الجسور التي جمعتني إلى الرجل فأحببته، ربما كنت أحب فيه جانبا من شبابي. ولم يفته أن يلاحظ لي أن ذلك الوتر النقدي ربما قد يكون هو ما شده هو الآخر إلي، قد أصابه كر السنين ببعض الوهن.

رحم الله ماهرا الشعلة التي سطعت في سماء الإعلام الإسلامي المعاصر والعقل الناقد الساخر الذي يبلغ حد المشاغبة ولكنه في ساعات العسرة يكون في الصف الأول يذب عن الأمة، فقد كان هناك في عاصمة الرشيد لم ترهبه العواصم ولا القواصم وكان الموت اقرب إليه من حبل الوريد. ولكن من لم يمت بالسيف مات بغيره.

وأذكر كلمة تعزية قالها لأحد من إخوانه قد تفجع كثيرا لموت محمد قطبة الداعية والشاعر القطري رحمه الله "إذا كان صاحبك من أهل النار فلا يستحق التفجع عليه وإذا كان كما تعتقد من أهل الجنة فما يليق بك التفجع عليه من باب أولى".

لقد اتصل بي الأستاذ معن بشور مهنئا بسلامتي قائلا تستحق قناة اقرأ أن نبعث لها بالشكر، فأجبته إنها آجال يا صاحبي لا تتقدم ولا تتأخر وإلا لأدركت المنية ماهرا وهو في ساحة فلسطين ببغداد حيث تعرض للاستهداف الأميركي فأصيب غيره ".. إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".