عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 23-09-2002, 03:17 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

أما قصد الشارع في وضع الشريعة فهو حفظ المقاصد التي هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحفظ ما يحقق وجودها ويرعاه وإبعاد ما يفسدها أو يعطلها. وأما قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام فيشرحه بأن هذه الشريعة عربية أمية وأما قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها فهو أن الشريعة لا تكلف بما لا يطاق وتتجنب المشقة والإحراج ولكنها تقر مشقة مخالفة الهوى وأما قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة فيعني به أن الشارع شمل كل الناس بالتكليف دون فرق بين غني وفقير أو حاكم ومحكوم وشمل كل السلوكيات والحوادث فلكل منها حكم في الشريعة وهو يقسم المقاصد في هذا القسم إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية وأما الأصلية فهي الضروريات الخمس وأما التبعية فهي المقاصد الخادمة للمقاصد الأصلية.
وأما القسم الثاني من المقاصد وهو مقاصد المكلف فيعني به مبدأ "الأعمال بالنيات" وهو يقول إن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع وأبو إسحاق يقف وقفة صارمة ضد "الحيل الفقهية".
كيف نعرف مقاصد الشريعة؟ يعدد الشاطبي أربع جهات يعرف منها مقصود الشارع : 1-الأمر والنهي في النصوص، 2-معرفة علل الأمر والنهي، 3- معرفة المقاصد التابعة، 4-مجرد سكوت الشارع مع توفر داعي البيان والشاطبي في الحقيقة يتبع جهة خامسة في معرفة المقاصد هي الاستقراء من النصوص الشرعية.
ونحن نؤثر الاكتفاء بهذه الخلاصة نظراً للحدود التي يفرضها حجم هذا البحث عن نظرية الشاطبي المقاصدية ويلاحظ القارئ من جهة أنها استفادت من كتابات السابقين وأضافت عليها وأنها أثرت في كل من كتب في موضوع المقاصد من اللاحقين.
سادساً: المقاصد عند عالمين من العصر الحديث:
في رأينا يعد الأستاذان محمد الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي أكبر عالمين اهتما بمقاصد الشريعة الإسلامية في العصر الحديث وقد أفرد كل منهما كتاباً خاصاً بهذا الموضوع هما "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ ابن عاشور و"مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" للشيخ الفاسي. ويبدو أن الرجلين- على اتفاقهما في الأساسيات- لا يخلو مؤلفاهما من اختلاف في الأسلوب وفي النقاط التي ركز عليها كل منهما ووفقاً لما أفترض فقد يجوز أن نعيد هذا الاختلاف إلى اختلاف طبيعة المؤسسات التعليمية التي مر بها كل منهما فابن عاشور على ما يبدو ظل فقيهاً مالكياً لم يخرج عن الأطر الفقهية التاريخية على حين تأثر الفاسي بالتعليم الغربي في مجال القانون الذي تلقاه وهذا التأثر لم يجعله طبعاً مستغرباً من المستغربين الكثر في جيله ولكنه لفت انتباهه إلى مقارنات مع القانون الغربي فلسفة وتاريخاً ونصوصاً لا يجدها القارئ في كتاب ابن عاشور الذي بين يدينا(وهذا لا يجعل كتابه أقل شأناً فلكل من العالمين ميزاته).
يرى ابن عاشور أن مقاصد الشريعة الإسلامية منبنية على وصف هذه الشريعة الأعظم الذي هو الفطرة النفسية والعقلية فقوله تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم* ثم رددناه أسفل سافلين* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون" ليس المقصود منه أن الله عز وجل قوّم صورة البشر لأن هذه الصورة لم تتغير إلى أسفل واستثناء الذين آمنوا من هذا التغيير يدلنا على أن المقصود تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة وليس تقويم الصور .
أما أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها فهو السماحة ويعني بها السهولة المحمودة المتوسطة بين التضييق والتسهيل وهذا هو معنى الوسطية ويرى أن السماحة عائدة إلى كون الشريعة دين الفطرة والفطرة تنفر من الشدة والإعنات.
والمقصد العام من التشريع عند ابن عاشور هو "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه :صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه" ويستدل على ذلك بآيات صريحة كلية تدل على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد منها ما يحكيه كتاب الله عن شعيب "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" وقول موسى لهارون "اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين" وقوله تعالى "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" .
وهذا المقصد العام يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد وهو يقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية وقد مرت معنا سابقاً وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، والكلية ما عاد عوداً متماثلاً على عموم الأمة أو جماعة عظيمة منها، فأما ما عاد على جميع الأمة فمثل حماية البيضة وحفظ الجماعة من التفرق وحفظ الدين من الزوال وحماية الحرمين وحفظ القرآن من انقضاء الحفاظ وتلف المصاحف وحفظ السنة من الموضوعات وأما ما عاد على جماعة عظيمة من الأمة فمثل العهود بين أمراء المسلمين وملوك الأمم المخالفة وأما المصلحة الجزئية فهي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة وهي موضوع أحكام المعاملات.
وقسم المصلحة باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها إلى قطعية دلت عليها نصوص لا تحتمل التأويل أو دل العقل على ان في تحصيلها صلاحاً عظيماً أو في ضدها ضرراً عظيماً وأما الظنية فما كان دليلها ظنياً وأما الوهمية فهي التي يتخيل فيها الصلاح وفيها عند التأمل الضر.
ويقسم الشيخ ابن عاشور المعاملات إلى مقاصد ووسائل والوسائل هي الأحكام التي شرعت غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه الأكمل فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتهما وإنما شرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة .
والمجاهد علال الفاسي الذي كان له باع طويل في الحركة السياسية المغربية كان لا بد له من أن يكون أكثر اهتماماً بجوانب مقاصد الشريعة في ميادين السياسة الشرعية ويظهر هذا الاهتمام في مناقشاته التي لا يتسع لها هذا البحث عن منهاج الحكم ومصدر السيادة في الإسلام وعن حقوق الإنسان والحرية السياسية والحرية الوطنية غير أنني أحببت في هذا الحيز المحدود أن ألفت الانتباه إلى فكرتين مهمتين في الكتاب:
أولاً: مقياس المصلحة في الإسلام الأخلاق الفطرية:
يركز الفاسي على الفكرة القائلة إن الإسلام خلافاً للمذاهب الغربية العصرية- مثلاً الاشتراكية والرأسمالية- التي تعرف المصلحة بالنفع كما تراه الأهواء والأفكار والعقائد الوضعية المتغيرة يقيس المصلحة بالخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل. والأخلاق الفطرية التي تعارفت عليها الإنسانية منذ نشأت هي عند الإسلام "العرف" المأمور به كما أن عكسها هو "المنكر" المنهي عنه. يقول الفاسي: "وهذه الأخلاق الفطرية يعتبرها الإسلام معروفة لدى الجميع ..فالتشريع الإسلامي خاضع للعرف ولكن العرف في الإسلام ليس هو ما يتعارف عليه مجتمع ما ولكنه ما تعارفت عليه الإنسانية منذ نشأتها" .
وهذه الفكرة مهمة للدعاة إلى الإسلام في عصرنا إذ أنها ترشدهم عند قيامهم بالدعوة في مجتمع ما إلى البحث عما تبقى في هذا المجتمع من هذا العرف الفطري لاستخدامه في الهداية إلى دين الفطرة الإسلامي، وهو يقدم لهم أيضاً النقد الإسلامي الأهم للحضارة المعاصرة التي ابتعدت عن الفطرة فسببت للبشرية الكوارث والآلام.
ثانياً: فكرة أصولية: "أمر الإرشاد":
يرى الفاسي أن الشريعة تسلك طرقاً كثيرة لتحقيق مقاصدها: مرة بالمنع والإيجاب الصريحين ومرة بالتدرج في التشريع حتى اكتماله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرة بتنفيذ الحكم في بعض صوره والتسامح في الصور الأخرى مع إعطاء الأمر عن طريق الإرشاد باستكماله إذا تمت أسباب استكماله الشرعية وهذا ما يدعوه "أمر إرشاد" ويمثل على ذلك الأمر بتحريم الخمر في الآية "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة" فدل هذا على أن قصد الشارع هو الابتعاد عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا أمر إرشاد ويضرب على أمر الإرشاد مثلاً بإباحة الإسلام المؤقتة للرق وكثرة الأحكام التي تدل على رغبة الإسلام في السير في طريق إلغائه.
قلت: وهذا في رأيي صحيح. أما ما يستحق مزيداً من النظر فهو استنتاج الشيخ علال من الآية "فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة" أن الشارع أرشد إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل وهو برأيه أمر للأمة جمعاء أن يستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدد مطلقا ً.
وفي رأيي فإن الشارع بالفعل أبدى ما يكفي من الإشارات للمتأمل لكي يقتنع أن تعدد الزوجات بلا سبب موجب أمر غير مستحب ولكن لنا أن نشك في صحة رأي الشيخ علال أن الشرع يريد الوصول إلى الإلغاء التام لهذا التعدد (ففي حالات نادرة يكون هذا التعدد ضرورياً) هذا مع العلم أننا لا نرى صحيحاً موقف كثير من فقهاء هذا العصر الذين توحي تصريحاتهم أن تعدد الزواج هو من مستحبات الشريعة الإسلامية ومقاصدها الثابتة!.
وبجميع الأحوال نحن ضد من يرغب في منع هذا التعدد على أساس من عقدة النقص تجاه التشريع الغربي،ولنا عودة لاحقة أكثر تفصيلاً عن رأي الفاسي هذا.