عرض مشاركة مفردة
  #32  
قديم 19-04-2007, 06:24 PM
الحقيقة. الحقيقة. غير متصل
عضو مشارك
 
تاريخ التّسجيل: Feb 2006
المشاركات: 856
إفتراضي

واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني : ( يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث ) . وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة . ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له : ( لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت ) واستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة .

والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية : أنه لا يحرم وأجابوا عن الحديث بأجوبة منها : أن المراد : أن الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ : ( لا ينبغي للمطي أن تعمل ) وهو لفظ ظاهر في غير التحريم . ومنها : أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة فإنه لا يجب الوفاء به . قاله ابن بطال .

ومنها : أن المراد حكم الساجد فقط وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال : سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للمصلي ( 1 ) أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي ) . وشهر حسن الحديث وإن كان فيه بعض الضعف ) .

وأقول : لقد ألان الحافظ رحمه الله القول هنا في شهر وحسن حديثه بهذا اللفظ مع أنه حكم عليه بأنه كثير الأوهام كما سبق نقله عنه فيما تقدم فمن كان كذلك كيف يحسن حديثه ؟ لا سيما إذا تفرد به دون كل من روى الحديث فقد ورد من طرق ثلاثة أخرى عن أبي سعيد وليس فيها هذه الزيادة التي احتج بها الحافظ وهي : ( إلى مسجد ) .

يضاف إلى ذلك أنه ورد الحديث عن سبعة من الصحابة غير أبي سعيد من طرق كثيرة عن رواة ثقات ولم يقل أحد منهم ما قال شهر فهل بعد هذا دليل وبرهان على خطأ شهر في هذه الزيادة ؟ ( 1 ) كذا في الأصل ولعله تصحيف من بعض الرواة والصواب : ( لا ينبغي للمطي أن تشد ) كما في ( المسند ) وغيره كما سبق .

على أنه قد اختلف فيها على شهر فذكرها بعضهم عنه دون بعض كما سبق بيان ذلك عند الكلام على الحديث من الطريق الرابع عن أبي سعيد . من أجل ذلك ذهبنا هناك إلى أنه لا يجوز الاحتجاج بهذه الرواية . وقد بدا لي حجة أخرى تؤيد خطأ شهر فأقول : ومما يدلك على ضعف هذه الزيادة بل بطلانها : أن في حديث شهر نفسه أن أبا سعيد أنكر عليه الذهاب إلى الطور واحتج عليه بهذا الحديث فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص معناه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة لما جاز لأبي سعيد - وهو العربي الصميم - أن يحتج به لأن شهرا لم يقصد الذهاب إلا إلى الطور وليس هو مسجدا وإنما هو جبل مقدس كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام فلا يشمله الحديث لو كانت فيه الزيادة فإنكاره الذهاب إليه أكبر دليل على بطلان نسبتها إلى حديثه ودليل أيضا على أن الحديث على عمومه وأنه يشمل الأماكن الفاضلة لأنه الذي فهمه أبو سعيد وكذا فهم منه عبد الله بن عمر وأبو بصرة الغفاري ووافقه أبو هريرة فكلهم أنكروا الذهاب إلى الطور محتجين بالحديث كما تقدم في تخريج أحاديثهم . فهؤلاء أربعة من الصحابة - لا مخالف لهم منهم - قد فهموا ذلك وهم أعلم بما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم وأدرى بما يقول .

ثم إن النظر يحكم بصحة عموم الحديث لأنه إذا كان منع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة مع العلم بأن العبادة في كل المساجد أفضل منها في غير المساجد وغير البيوت وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( أحب البقاع إلى الله المساجد ) كما مر وكان منع أيضا من السفر إلى الطور الذي سماه الله تعالى بالوادي المقدس فالمنع من السفر إلى غيرها أولى لا سيما إذا كان المكان المقصود قبور أنبياء وصالحين فإنه حرم بناء المساجد عليها كما مضى فكيف يسمح بالذهاب إليها ولم يسمح بالسفر إلى المساجد المبنية على تقوى الله ؟ وهذا - بحمد الله - بين لا يخفى .

وأما الجوابان الآخران اللذان حكاهما الحافظ فهما ضعيفان أيضا وإليك البيان : أما الجواب الأول فالحديث وإن كان بلفظ النفي فهو بمعنى النهي كما حكاه الحافظ نفسه عن الطيبي . ويؤيد ذلك أمران : الأول : أنه جاء صريحا بالنهي في الرواية الثانية : ( لا تشدوا ) . والآخر : أنه الذي فهمه الصحابة فنهوا عن الذهاب إلى الطور كما سبق . وهناك أمر ثالث يقوي ذلك : وهو أن الحديث من رواية أبي سعيد في ( الصحيحين ) وغيرهما قطعة من حديث ورد فيه النهي عن أربعة أمور : ( أ ) شد الرحال ( ب ) سفر المرأة بغير محرم . ( ج ) صوم يومي الفطر والأضحى . ( د ) الصلاة بعد الصبح والعصر . والنهي في هذا للتحريم فحمل النهي عن شد الرحال خاصة للتنزيه خلاف الظاهر المتبادر وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز وهذا لا يجوز إلا لصارف ولا صارف هنا ورواية أحمد التي احتج بها الحافظ بلفظ : ( لا ينبغي للمطي أن تعمل ) غير صحيحة كما سبق بيانه مرارا فلا حجة فيها .

على أن هذه الرواية لو صحت فهي لا تفيد الجواز المجرد عن الكراهة بل هي نص في الكراهة وحينئذ فقول النووي في شرح الحديث من رواية أبي سعيد : ( الصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره ) . غير صحيح . وقد قال النووي أيضا في شرح الحديث من رواية أبي هريرة ما نصه : ( معناه عند جمهور العلماء : لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها ) . وهذا تسليم منه أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا فضيلة فيه فليس هو بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ومن المعلوم المشاهد أن من يقصد السفر إلى غيرها يبتغي بذلك التقرب إلى الله تعالى وهذا محرم اتفاقا لأنه تعبد الله تعالى بما لم يجعله عبادة

ولذلك ذكر العلماء أنه ( لو نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة بخلاف لو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنه مرفوعا : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) . والسفر إلى المسجدين هو طاعة فلهذا وجب الوفاء به .

وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع أنه يستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما سيأتي قالوا : ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة . وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في ( إبانته الصغرى ) من البدع المخالفة للسنة والإجماع ) نقلته من ( الفتاوى ) لشيخ الإسلام ( 1/119 - 120 ) .

بقي علينا الجواب عن الجواب الثاني الذي أورده الحافظ فنقول : إنه تخصيص للحديث بدون أي مخصص والحديث أعم من ذلك وكل أحد يستطيع أن يدعي تخصيص أي عموم من كتاب أو سنة ولكن ذلك لا يقبل منه إلا مقرونا بالدليل والبرهان فأين الدليل هنا على هذه الدعوى ؟

ولذلك قال المحقق الصنعاني في ( سبل السلام ) ( 2/251 ) : ( وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرم واستدلوا بما لا ينهض وتأولوا أحاديث الباب بتآويل بعيدة ولا ينبغي إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليل ) .

زاد أبو الطيب صديق حسن خان في ( فتح العلام ) ( 1/310 ) : ( ولا دليل والأحاديث الواردة في الحث على الزيارة النبوية وفضيلتها ليس فيها الأمر بشد الرحال إليها مع أنها كلها ضعاف أو موضوعات لا يصلح شيء منها للاستدلال ولم يتفطن أكثر الناس للفرق بين مسالة الزيارة وبين مسألة السفر لها فصرفوا حديث الباب عن منطوقه الواضح بلا دليل يدعو إليه ) .

قلت : وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى الاستدلال عليها بالأحاديث الضعيفة المشار إليها ففي الباب ما يغني عنها ولو لم يكن في الباب إلا الأحاديث العامة في زيارة القبور كفى في إثبات زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وذلك من باب أولى كما لا يخفى ولعله يأتي توضيح ذلك وبيانه في المحل المناسب له .

والخلاصة : أن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني ومن وافقه من تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة من المواضع الفاضلة هو الحق الذي يجب المصير إليه بخلاف السفر للتجارة وطلب العلم ونحو ذلك فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان كما قال شيخ الإسلام في ( الفتاوى ) ( 2/186 ) .

وقد جرى له رحمه الله فتن عظيمة بسبب إفتائه بتحريم شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين حتى قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه طافحة بالاستدلال لما ذهب إليه وقد رد عليه الإمام السبكي - وكان من معاصريه - وألف في ذلك كتابه المسمى : ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) أورد فيه الأحاديث الواردة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وأقوال العلماء في مشروعيتها وقد وقعت له فيه هفوة عظيمة حيث عزا إلى شيخ الإسلام القول بإنكار مطلق الزيارة النبوية - أعني بدون شد رحل - مع أنه من القائلين بها والذاكرين لفضلها وآدابها وقد ذكر ذلك فيما غير كتاب من كتبه ولذلك فقد قام بالرد على السبكي العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي في مؤلف له كبير أسماه : ( الصارم المنكي في الرد على السبكي ) وهو كتاب قيم فيه فوائد كثيرة فقهية وحديثية وتاريخية وقد بين فيه بتوسع وتفصيل حال الأحاديث المشار إليها وما فيها من ضعف ووضع وبرأ ابن تيمية مما نسب إليه من الإنكار بما نقله عنه من النصوص الكثيرة فمن شاء فليرجع إليه .

( انظر ( الفتاوى ) ( 1/118 - 122 و2/185 - 187 ) و( مجموعة الرسائل الكبرى ) ( 2/53 - 63 ) >

ومن الغريب أن تروج تلك النسبة الخاطئة إلى ابن تيمية على كثير من العلماء والمشايخ الذين جاؤا بعده وكان آخرهم - إن شاء الله تعالى - الشيخ يوسف النبهاني فقد سود صحائف كثيرة بالطعن في ابن تيمية بجهل وضلال فقام أحد العلماء الأفاضل فرد عليه في كتاب ضخم اسمه : ( غاية الأماني في الرد على النبهاني ) أبان فيه عن جهل النبهاني وضلالته وانتصر فيه لابن تيمية بحق وعدل فمن شاء الوقوف على الحقيقة فليرجع إليه وليجعل كل اعتماده عليه .

هذا ولا بأس من أن أنقل إليك ما ذكره ولي الله الدهلوي في مسألة شد الرحل لأنه لا يخلو من فائدة جديدة قال رحمه الله في ( الحجة البالغة ) ( 1/192 ) : ( كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى فسد صلى الله عليه وسلم الفساد لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من الأولياء والطور كل ذلك سواء في النهي ) .