خرج النبي – صلى الله عليه وسلم- من المدينة يوم السبت بعد صلاة الظهر، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه ذلك وبات ليلته تلك؛ حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه.
فلما أصبح قال: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: "صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة).
تهيأ - صلى الله عليه وسلم- لإحرامه .. فأشعر هديه وقلده، واغتسل صلى الله عليه وسلم لإحرامه، فتطيب من طيب عائشة رضي الله عنها .. فكان صلى الله عليه وسلم ينفح طيباً.. ويرى وبيص الطيب في مفارقة عليه الصلاة والسلام ..
لبس صلى الله عليه وسلم إحرامه وصلى الظهر ثم استقل راحلته على غاية من الخشوع والخضوع والتعظيم لرب العالمين، متواضعاً لله معظماً لشعائره.
ركب راحلته وعليها رحله وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم فلما انبعثت به راحلته استقبل القبلة، وحمد الله وسبح وكبر ..
وقال: لبيك حجة لا رياء فيها ولا سمعة،
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك إله الحق.
أما متاعه وزاده فكان ما تحمله راحلة أبي بكر رضي الله عنه فكانت راحلته وراحلة أبي بكر واحدة..
فكان صاحبه في رحلته هذه من المدينة إلى مكة هو صاحبة في هجرته من مكة الى المدينة وراحلته هي راحلة صاحبه رضي الله .. حينما خرج صلى الله عليه وسلم وقد نذرت به القبائل وتطلبته وهو "يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا"، وهاهو اليوم يسير مسيراً آخر هو وصاحبه من المدينة إلى مكة والأرض قد وطئت له القبائل التي كانت تطلبه وقد آمنت ه كلها وهذه جموعها تزحف معه في هذا المسير.
سار صلى الله عليه وسلم بوفود الحجيج متوجها الى البيت العتيق .. فكان واحدا منهم .. عبدا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
يقول أنس كنت ردف أبي طلحة على راحلته وإن ركبته لتكاد تمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
لبيك حجة وعمرة،
لقد كان الناس حوله كما قال جابر رضي الله عنه: نظرت مد بصري بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ما بين راكب وماشٍ، ومن خلفه مثل ذلك، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله فما عمل من شيء عملناه.
سار صلى الله عليه وسلم بهذه الجموع الزاحفة حوله ما بين راكب وماشٍ تحيط به
فتنزل عليه جبريل فقال: "يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها شعار الحج، فاهتزت الصحراء وتجاوبت الجبال بضجيج الملبين، وهتافهم بتوحيد رب العالمين. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يقطع هذه الفيافي القفار وكأنما جبالها ووهادها وآكامها وأوديتها تروي له خبرها، وتحدثه بمن مر بها،
فتراءت للرسول صلى الله عليه وسلم-أطياف الأنبياء الذين ساروا يؤمون هذا البيت قبله، كأنما يراهم أمامه ويرافقهم في مسيره.
فلما مر بوادي عسفان قال: (يا أبا بكر أي واد هذا؟) قال: (وادي عسفان) قال
لقد مر به هود وصالح على بكرات خطمها الليف، أُزُرُهُم العباء، وأرديتهم النمار، يحجون البيت العتيق).
ولما مر بوادي الأزرق قال: (أي وادٍ هذا؟) قالوا: وادي الأزرق، قال: (كأني أنظر إلى موسى بن عمران منصباً من هذا الوادي واضعاً أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية ماراً بهذا الوادي).
ولما مر بثنية قال: (أي ثنية هذه؟) قالوا: هرشى قال: (كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، خطامها ليف، وهو يلبي وعليه جبة صوف).
ويقول عن فج الروحاء: (لقد مر بالروحاء سبعون نبياً، فيهم نبي الله موسى حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق).
قال صلى الله عليه وسلم "ليهلن ابن مريم بالروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما"،
سارصلى الله عليه وسلم في الطريق بين المدينة ومكة، مسافراً يتلقى ما يتلقاه المسافر من وعثاء السفر ونصب الطريق، فقد مرض صلى الله عليه وسلم في مسيره هذا واشتد به صداع الشقيقة فاحتجم في وسط رأسه.
وانقطع أثناء المسير بعير صفية بنت حُيي أم المؤمنين فتجاوزها الركب فرجع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تبكي فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو يسكنها وينهاها، فلما أكثرت انتهرها وأمر الناس بالنزول ولم يكن يريد أن ينزل حتى أصلح شأن صفية.
وفي أحد منازله صلى الله عليه وسلم في الطريق في مكان يسمى العرج جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجانبه زوجه عائشة، وجلس صاحبه أبو بكر وبجانبه ابنته أسماء ، وكان أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه غلامه بزاملته التي كانت تحمل متاعه ومتاع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع الغلام وليس معه بعيره فقال أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة، فطفق أبو بكر يضربه ويقول: بعير واحد وتضله، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويبتسم ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع! وجعل أبو بكر يتغيظ على غلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"هون عليك يا أبا بكر فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك" ولم يلبثوا طويلاً حتى وجدت الزاملة وجاء الله بها.
ولما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة نزل مكاناً يقال له "سرف" وعرض على أصحابه من لم يكن ساق الهدي أن يجعلها عمرة، ولم يعزم عليهم،
ثم دخل على عائشة رضي الله عنها فإذا هي تبكي ، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: والله لوددت أن لم أكن خرجت العام، قال: فمالك؟ قالت: سمعت قولك لأصحابك ومنعت العمرة، فقال: (لعلك نفست) أي حضت قالت: نعم. فجعل صلى الله عليه وسلم يسري عنها ويواسيها ويتلطف بمشاعرها ويقول:
(إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، وإنما أنت امرأة من بنات آدم كتب عليك ما كتب عليهن فلا يضرك، افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري، وكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها)، أي: العمرة.
لعلك تتأمل .. في حسن معاملته لزوجاته ولطفه بهن صلوات الله وسلامه عليه .. وحسن تعليمه لهن رضي الله عنهن وارضاهن ..
وتتفكر مليا .. كيف عاد راكبا راحلة صاحبه .. يسأل صاحبه .. اي واد هذا .. اي ثنية هذه ..
ممتنا له الصحبه .. متوددا اليه .. ولقد قال صلي الله عليه وسلم .. ما من أحد كان له علينا يد إلا كافئناه بها إلا أبو بكر وإني لأرجو أن يكافئه الله بها ..
وقال فيه صلى الله عليه وسلم .. لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ..
وقال عليه افضل الصلاة والسلام ..
( ما طلعت الشمس ولا غربت علي احد افضل من ابي بكر الا ان يكون نبيا )