رسالة من الأطباء السوريين في ألمانيا
رسالة من القلب إلى القلب: هل تفتخر سورية بانتمائنا إليها، أم نفتخر نحن بانتمائنا إلى سورية؟
في الحالتين الأمر جائز ما دامت النتيجة واحدة، ارض طيبة وشعب مميز. هذا ما اكتشفته من خلال زيارتي لواحد من اكبر المشافي الجامعية في منطقة ايرلانغن الواقعة في منطقة بفاريا أكبر الولايات الالمانية. هذا المشفى الجامعي القديم (250 سنة) يدرس جميع الكليات والاختصاصات وقد تخرج منه الكثير الكثير من الاطباء العرب عموما والسوريين تحديدا، وقد كان المفروض ان يكون اللقاء مع نخبة من الاطباء لكن لضغط العمل انتخبوا عنهم ناطقاً بلسانهم الدكتور الطبيب فيضي عمر محمود, وهو غني عن التعريف بمكانته إلا أني سأقدم لمحة مختصرة عن هذه الشخصية المميزة في مجال طب جراحة القلب في المشفى، والمستشار الاكاديمي ورئيس الاطباء في مركز جراحة القلب في جامعة ايرلانغن.
تخرج الدكتور فيضي من كلية الطب جامعة دمشق قسم العيون وبعد العمل لفترة في مشافي دمشق سافر لتتمة الدراسة في طب العيون في ألمانيا الا انه لسوء الحظ لم تتوفر له امكانية المتابعة في نفس الاختصاص فحول نشاطه واختص في الجراحة وبعدها انتقل إلى جراحة القلب وأبدع فيها. وأضاف إلى تاريخه الحافل بانجازاته العملية؛ اهتماماته الشخصية من تنظيم مؤتمرات سنوية لاتحاد الاطباء العرب كرئيس للجنة العلمية. كذلك شارك في تنظيم المؤتمرات الطبية السورية الالمانية السنوية أيضاً، وله ثلاثة كتب والكثير من المقالات العلمية في المجلات العربية والعالمية، وقد شارك في العمليات الجراحية التي أُجريت اثناء المؤتمرات في مراكز جراحة القلب في سورية. طبعاً لو حاولنا تعداد مزايا وامكانيات ومواهب هذه الشخصية الفذة لما انتهى التعداد. بالمختصر إنه خير ناطق بلسان زملائه، الذين لا يقلون عنه خبرة وتاريخاً حافلاً.
في موعد اللقاء فاجأنا حضور الدكتور صلاح مكتبي اختصاص صدرية وحساسية, وهو أيضاً غني عن التعريف لان خبرته العميقة في الطب عموماً وفي اختصاصه تحديداً ونشاطاته الدائمة في خدمة الوطن، وعشقه وشوقه وحنينه إلى الوطن لا يوصف، حتى انه قال أنا على استعداد لان اقدم خبرتي التي تعلمتها من اجل الوطن لاي طبيب بحاجتها، وهو مصرّ على العودة إلى الوطن يوماً، ليرد لها جميلها الذي لن ينساه أبداً، فهو خريج جامعة حلب لكنه غادر دمشق منذ 25 سنة طلباً للاختصاص, ولهذا العرفان سيقدم كل ما تعلمه ومجاناً لكل طبيب راغب على إكمال مسيرته الطبية الحافلة بالمنجزات. وقد كان حضوره صدفة لانه لا يعمل في المشفى بعد ان استقل بعيادة خاصة باختصاصه، وقد شارك بكل حب في اللقاء، وبدأنا الحديث عن الطبيب السوري في المغترب بهذا السؤال:
* هل يقبل المريض الالماني على الطبيب السوري بنفس الاقبال على الطبيب الالماني؟
هنا اجابني الدكتور مكتبي بأن روى لي قصة صغيرة لكنها تحمل بين طياتها الكثير من المعاني، اذ قال إنه عندما كان يعمل في المشفى كرئيس للاطباء قام ذات مرة بجولة دورية على المرضى برفقة بروفيسور ألماني. فاجأه البروفيسور الألماني بسؤال غريب نوعاً ما؛ إذ سأله يا دكتور مكتبي أين يكمن السحر الذي يقربك من المريض؟ أين تعلمت هذا الطب ان تدخل قلب المريض قبل جسده؟ فأجابه الدكتور مكتبي هذا العلم درسته في أزقة حلب العريقة. طبعاً دُهش البروفيسور الالماني لهذا الجواب، لكنها الحقيقة. فالطبيب الالماني رغم تعمقه في الطب كعلم، يفتقر إلى اللسان الدافئ وفن الحياة الاجتماعية التي هي أهم دواء لكل علة ومرض، فخبرة الحياة الاجتماعية التي نتعلمها من الاهل والمحيط والاختلاط بالاخرين منذ الصغر والاحتكاك كانسان لانسان يجعلنا نفقه علوماً كثيرة وهذا ما يجعل المريض الالماني يدخل عيادات الاطباء السوريين تحديداً، وهذا ما رأيته بأم عيني بعد هذا اللقاء عندما قبلت دعوة الدكتور مكتبي لزيارته في عيادته الخاصة، واحتككت بالمرضى الموجوين فأبدوا استحساناً لا نظير له لخبرته وطول باله وكرمه في النصيحة, كانت العيادة تعج بالمرضى، عيادة كبيرة مؤلفة من غرف عدة وأجهزة متطورة لا مثيل لها في أوروبا. أجمع الجميع على انهم لا يتلقون العلاج فقط بل الامان، فالكلمة الحلوة دواء لا كيمياء فيه، وعلى هذا الاساس تقوم الآن الجامعات الالمانية بتدريس الطب النفسي كرفيق لاي اختصاص في الطب.
وكان السؤال الثاني: ما السبب الرئيسي لتوجه الطبيب السوري للدراسة في الدول الاجنبية؟
أجابني الدكتور فيضي من خلال خبرته في عمله في المشافي الألمانية منذ عام 1975 وحتى الآن وبما انه قد اختص في قسم العيون في سورية وفي جراحة القلب في المانيا بالاسباب التالية:
1 - ان نظام المشافي الاوربية يختلف تماما عن الانظمة في المشافي السورية (كعقود الاطباء وحقوق الاطباء ونظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية وتدابير أخطاء المهنة .. إلخ).
2 - نظام التفرغ: الاطباء في المشافي الالمانية متفرغون للعمل في هذه المشافي، حيث الطبيب العامل في المشفى الالماني متفرغ تماماً للمريض وللاطباء الذين يجرون التخصص، ولا يسمح له بممارسة أي أنشطة خارج نطاق المشفى. لذلك امكانية التخصص واستغلال الوقت والجدية في الامور وممارسة البحث العلمي متوفرة على مدار السنة، والاطباء المشرفون على الاختصاص موجودون دائما في المشفى.
3 - التقنيات الحديثة متوفرة و"شغّالة" ومستغلة، لذلك فإجراء الاختصاص في المشافي الاجنبية اسهل منها في المشافي السورية.
4 - المزايا المادية أثناء فترة الاختصاص.
5 - التأمين الصحي للمريض الالماني يسمح للطبيب بالمعالجة دون قيود مادية.
كما تحدث عن الأسباب المتعلقة بالوطن سورية او ببلدان العالم العربي:
1 - الفقر والسعي وراء زيادة المكسب وخاصة بعد التخرج مباشرة.
2 - إقبال المرضى على حاملي الشهادات الاجنبية افضل من اقبالهم على حاملي الشهادات المحلية في العيادات.
3 - البحث عن شروط افضل للعمل والممارسة الطبية.
4 - عدم توفر الاختصاصات النوعية التي تتيحها البلاد.
5 - ضعف الجو العلمي وقلة الامكانيات والابحاث والدراسات.
6 - ظروف خدمة العمل (طويلة وغير مجدية).
أما رأي الدكتور مكتبي في الموضوع فكان مشابهاً نوعاً ما لرأي الدكتور فيضي، لكنه أضاف قائلاً: إن التعليم النظري في سورية اكثر من متكافئ مع التعليم النظري في ألمانيا، لكن التعليم العملي هو الذي يحمل الطبيب السوري على السفر إلى الدول الاجنبية، أي بحثاً عن الجديد من اجهزة وتقدم طبي.
انتقلنا إلى السؤال التالي: هل يتعامل المريض الالماني مع الطبيب السوري على اساس انه لا يختلف خبرة وقدرة عن الطبيب الالماني في المعالجة؟
أجابني الدكتور فيضي ان المجتمع الالماني يدرك ويعرف ان الطبيب الاجنبي الذي يُسمح له بالعمل في المشافي الألمانية لم يُترك على سبيل الصدفة، إذ تم اختياره بناء على شهاداته وكفاءته وبعد اجراء المقابلة الشخصية معه، ولا بد أن الأطباء الأجانب متفوقون وذوو قدرات عالية. وقد ركز الدكتور فيضي على اهمية اتقان الطبيب السوري للغة الألمانية لغة الاحتكاك اليومي بالمريض، ولهذا لن يجد اي صعوبة او تمميز او عنصرية ولا اختلافاً في المعاملة خلال الممارسة اليومية.
* هل تؤمنون كأطباء بسرقة الادمغة العربية عامة والسورية خاصة من قبل الدول الاجنبية ومنها المانيا وهذا لايمانها بقدراتهم العالية؟
أجابني الدكتور فيضي أولاً، أنه حسب الاحصائيات الحالية فإن البلد الذي يعلم طبيباً ويدرسه يخسر مع كل طبيب مهاجر ما يقدر بمبلغ 184 الف دولار للخريج الواحدـ بالاضافة إلى أن عدم توفر الاختصاص المرغوب في بلده يضاعف المشكلات الصحية التي قد تجعل الحاجة إلى الاستعانة بطبيب او خبير اجنبي معوض بأغلى الرواتب، لذلك فإن البلد الغربي يكسب عبر الطبيب المهاجر الكثير من الامكانيات التي خسرتها بلاده، إذ يستفيد من الطبيب مباشرة دون أن يخسر عليه الكثير، لذلك الاطباء الناجحون والمتفوقون لديهم تسهيلات للبقاء في هذه الدول اذا اردوا البقاء والعمل.
أما رأي الدكتور مكتبي فكان أنه لا يوجد ما يسمى بسرقة الأدمغة، وان الطبيب حكيم نفسه، فعندما تتوفر وسائل الراحة والعمل للطبيب والامكانيات المادية المناسبة لحياة كريمة في وطنه لن يمنعه عن العودة اي عذر واي سبب، وبهذا لن يكون هناك ما يسمى سرقة الادمغة.
و انتقلنا إلى السوال التالي: هل تقدم سورية برأيك للطبيب السوري بجميع الاختصاصات المتاحة الامكانيات المادية والمعنوية؟
فأجاب الدكتور مكتبي انه من خلال زياراته لسورية، زيارات العمل والسياحة، وجد ان الطبيب السوري لا ينال حقه المادي والمعنوي على أكمل وجه. وقال: بصراحة ان الطبيب العامل في المشفى الحكومي في سورية لا يحصل على المردود المادي الذي يسمح له باكتساب المردود المعنوي، وان الطبيب والمعلم هما اهم كادرين على الاطلاق في اي مجتمع، ولنبني إنساناً كاملاً سوياً علينا الاهتمام بهذين الكادرين، فالأول يقدم التربية والعلم والثاني يقدم الصحة، وعندما تجتمع هذه المزايا في الانسان سينشئ مجتمعاً راقياً وقوياً لا محالة، وعليه يجب ان ينال هذان الكادران حقوقهم الكاملة وجزاء اتعابهم ما يسمح لهم بحياة جيدة وكريمة, وعندما لا تستوفى الشروط المطلوبة لن يستطيع الطبيب ان يقدم الافضل فيصبح العمل روتينياً وليس حباً في هذه المهنة، ويتحول العمل على خدمة المريض إلى واجب ليعيش، ولا يفكر في التقدم، أي كالمثل القائل فاقد الحب لا يعطيه، وان الطب في كل دول العالم الغربي من اهم المهن لأنها مهنة تحمل على عاتقها أرواحاً وأجساداً، لكن في سورية رغم تقدم الطب بشكل ملحوظ عن الماضي؛ فإن الطبيب ما زال يُعامَل كصاحب أي مهنة. غير أنه نوه بكل إصرار على ان التقدم الصحي ملحوظ في سورية، وتعليقه منحصر في مساعدة الطبيب على فتح عيادة خاصة مثلا، كأن تخصص وزارة الصحة مبلغاً معيناً يساعد الطبيب على تحقيق الغاية وهي فكرة لا بأس بها، ان تلغى الرسوم الجمركية على الاجهزة الطبية التي تدخل الوطن، لان غلاء الرسوم الجمركية يؤدي إلى استرداد المبلغ المدفوع عليها من جيب المواطن المريض الزائر للعيادات، وارتفاع تسعيرة الفحص فينعدم التكافؤ بين مردود المواطن السوري وتسعيرة الطبيب او المشافي الخاصة، وخاصة عندما تكون الاجهزة اصلا باهظة الثمن لاهميتها وحاجتها. كما أضاف ضرورة توفر مختصين في صيانة الاجهزة والالات والعمل على الفحص المستمر لهذه الاجهزة.
* ما الخدمات التي يستطيع الطبيب السوري تقديمها لوطنه الام وهو بعيد عنه؟
أجابني الدكتور فيضي ان الطبيب السوري يمكنه ان يخدم وطنه من المهجر بهذه الاساليب: