تدمر: وشاهد ومشهود 2
إلى المنفردة من جديد
مضت قرابة ثلاثة أسابيع على وجودنا في المهجع الجماعي لنفاجأ صبيحة أحد الأيام بالسجان يفتح الباب ويطلب مجموعة من الشباب بأسمائهم . وعندما عادوا بعد فترة لم تطل سألناهم عم جرى فقالوا إنهم أمروهم أن يوقعوا على أوراق وحسب . ما الذي فيها ؟ لم يدر أحد . وتكرر الأمر وتتابع إخراج الشباب حتى شمل كل الذين اعترف عليهم سالم . وبعد يومين وما كدنا ننهي عشاءنا حتى جاءني الطلب مع ثلاثة أو أربعة إخوة آخرين ، فطمشونا وكبلونا من جديد ، ووجدناهم يقودون كل واحد منا إلى زنزانة منفردة ويقفلوا عليه .
مرت بضع ساعات علي أترقب أي جديد دون نتيجة . ولم يلبث البرد أن بدأ يزحف على جسدي ، وينخر مفاصلي وعظامي . ولم يكن في الزنزانة أية بطانية أو غطاء ، ساعتها افتقدت نعمة الإزدحام في المهجع التي أمنت لنا الدفء على أقل تقدير ! ولم أكد أتكور على نفسي محاولاً بث الدفء من جزء من بدني إلى الجزء الآخر حتى أخذ القمل ينشط فيّ ويبدأ عضاته التي لا ترحم ولا تُتَّقى ! ولم تلبث أصوات أخ يعذب أن انطلقت تشق ظلمة الليل ، فأدركت أنني قريب من غرفة التعذيب التي لم نكن نحس بوجودها في المهجع . وازداد الصراخ ، وطال العذاب ، عذاب الأخ يليه الأخ وعذابي أنا . وأخذت الهواجس تطبق علي وتنهش نفسي المنهكة . وعدت إلى مخاوفي التي سكنت بعض الشيء بملاقاة الإخوة والإستئناس بهم في المهجع ، وها أنا ذا هنا من جديد لا أنيس حولي آنس به ولا جليس أشكو مرارة حالتي إليه .
ومضت الأيام علي أسير هذه الزنزانة الموحشة .. يفتح السجان الباب علي الآن ثلاث مرات في اليوم للخروج إلى الحمام .. وليته لم يكن يفعل . فتلك كانت فرصة مالك السجان الموتور وأمثاله ليسلخوا جلودنا بالكبلات من جديد ، ويفرغوا فينا من سموم أحقادهم ما وسعهم الجهد . فإذا عدت عادت إلي الأوجاع والبرد والجوع والكوابيس .. عرضة في أي وقت لنزوة سجان يفرغها في بدني المنهك من غير أي سبب أو تفسير . فلا أملك إلا البكاء والتضرع إلى الله تعالى أن يخفف عنا . وبعد مضي عدة أيام وجدتهم يستدعونني إلى غرفة التحقيق ويسألونني عن أسماء وأشخاص لم أكن أعرفهم بالفعل . فرفعوا الطماشة عن عيني وعرضوهم أمامي . فقلت لا أعرفهم . وتكرر الأمر ، ثم وجدتهم في المرة التالية يعرضونني أنا على أخ معتقل لا أعرفه ، لكنهم لما سألوه هل تعرفه قال نعم . ولقد علمت بعدها أن الأخ كان أحد من كشفتهم اعترافات سالم أيضاً ، لكنني لم أعرف لماذا قال أنه يعرفني رغم أنني لم أره من قبل بالتأكيد . ولم ألمه فيما قال وقدرت أن التعذيب لا بد وأن طاله مثلما طال البقية . لكن ذلك كان من أصعب الأمور حقاً . فالواحد لا يكاد يصدق أنه أغلق الأبواب عليه وانتهى من دوامة العذاب والتحقيقات ليأتي من يفتح عليه الباب ويعيده إلى مسلسل الرعب من جديد !
http://www.shrc.org/books/tadmur.saleemhamad/34.htm