شرح حديث النزول من كتاب فتح الباري للحافظ الجهبذ ابن حجر
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث النزول :
استدل به من أثبت الجهة وقال : هي جهة العلو , وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك .
وقد اختلف في معنى النزول على أقوال :
فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم .
ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتزلة وهو مكابرة , والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك وأنكروا ما في الحديث إما جهلا وإما عنادا ,
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف , ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم ,
ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب ,
ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف ,
ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبا مستعملا في كلام العرب وبين ما يكون بعيدا مهجورا فأول في بعض وفوض في بعض , وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد , قال البيهقي : وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه , ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم . وسيأتي مزيد بسط في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .
وقال ابن العربي : حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث , وعن السلف إمرارها , وعن قوم تأويلها وبه أقول .
فأما قوله ينزل فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته , بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه , والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني , فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك , وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة , فهي عربية صحيحة انتهى . والحاصل أنه تأوله بوجهين : إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره , وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه . وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا , ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ " إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل , ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع فيستجاب له " الحديث . وفي حديث عثمان بن أبي العاص " ينادي مناد هل من داع يستجاب له " الحديث .
قال القرطبي : وبهذا يرتفع الإشكال , ولا يعكر عليه ما في رواية رفاعة الجهني " ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول : لا أسأل عن عبادي غيري " لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور . وقال البيضاوي : ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه , فالمراد نور رحمته , أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة .
--------------------------------------
وفي موضع آخر قال :
وقد نبهت على من أخرج الزيادة المصرحة بأن الله يأمر ملكا فينادي في " كتاب التهجد " وتأويل ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان الإجابة وهو معهود في اللغة , تقول : فلان نزل لي عن حقه بمعنى وهبه , قال : والدليل على أنها صفة فعل تعليقه بوقت محدود ومن لم يزل لا يتعلق بالزمان فصح أنه فعل حادث , وقد عقد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وهو من المبالغين في الإثبات حتى طعن فيه بعضهم بسبب ذلك في كتابه الفاروق بابا لهذا الحديث , وأورده من طرق كثيرة ثم ذكره من طرق زعم أنها لا تقبل التأويل مثل حديث عطاء مولى أم صبية عن أبي هريرة بلفظ " إذا ذهب ثلث الليل " وذكر الحديث وزاد " فلا يزال بها حتى يطلع الفجر فيقول هل من داع يستجاب له " أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وهو من رواية محمد بن إسحاق وفيه اختلاف , وحديث ابن مسعود وفيه " فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش " أخرجه ابن خزيمة وهو من رواية إبراهيم الهجري وفيه مقال , وأخرجه أبو إسماعيل من طريق أخرى عن ابن مسعود قال " جاء رجل من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علمني " فذكر الحديث وفيه " فإذا انفجر الفجر صعد " وهو من رواية عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه ولم يسمع منه , ومن حديث عبادة بن الصامت وفي آخره " ثم يعلو ربنا على كرسيه " وهو من رواية إسحاق بن يحيى عن عبادة ولم يسمع منه , ومن حديث جابر وفيه " ثم يعلو ربنا إلى السماء العليا إلى كرسيه " وهو من رواية محمد بن إسماعيل الجعفري عن عبد الله بن سلمة بن أسلم وفيهما مقال , ومن حديث أبي الخطاب " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر " فذكر الوتر وفي آخره " حتى إذا طلع الفجر ارتفع " وهو من رواية ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف , فهذه الطرق كلها ضعيفة وعلى تقدير ثبوتها لا يقبل قوله أنها لا تقبل التأويل فإن محصلها ذكر الصعود بعد النزول فكما قبل النزول التأويل لا يمنع قبول الصعود التأويل , والتسليم أسلم كما تقدم والله أعلم . وقد أجاد هو في قوله في آخر كتابه فأشار إلى ما ورد من الصفات وكلها من التقريب لا من التمثيل , وفي مذاهب العرب سعة , يقولون أمر بين كالشمس وجواد كالريح وحق كالنهار , ولا تريد تحقيق الاشتباه وإنما تريد تحقيق الإثبات والتقريب على الأفهام , فقد علم من عقل أن الماء أبعد الأشياء شبها بالصخر , والله يقول ( في موج كالجبال ) فأراد العظم والعلو لا الشبه في الحقيقة , والعرب تشبه الصورة بالشمس والقمر , واللفظ بالسحر , والمواعيد الكاذبة بالرياح , ولا تعد شيئا من ذلك كذبا ولا توجب حقيقة وبالله التوفيق .
-----------
وبالله التوفيق ......
|