يهود المغرب
نشر (سـامي كليب ) مقاله (يهود المغرب بين الهجرة والتأثير) ووصلني عبر بريدي الإلكتروني، وأعيد نشره لعله يفيد الاخوة المهتمين بالصراع مع الإسرائيليين.
**************
بكثير من المغالاة, يتحدث البعض عن (اللوبي) المغربي في اسرائيل, ويقولون ان اليهود الذين هجروا المملكة على امتداد عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية سمحوا للملك الراحل الحسن الثاني بالتأثير على السياسات الاسرائيلية المتعاقبة. ولكن الحقيقة في مكان آخر, فلا الملك أثر فعلا على سياسات إسرائيل وساستها, ولا اليهود حافظوا على (العهد) سوى من خلال الموسيقى والغناء التقليديين اللذين يردح بهما من بقي من الجيل القديم في الاعراس والمناسبات.
صحيح ان بعض الارقام تشير الى ان عدد اليهود ذوي الاصل المغربي في اسرائيل قد يصل الى 800 الف نسمة وان لهم ما لا يقل عن 7 وزراء وان قادة اسرائيل حرصوا على التعريج على المملكة بعد كل لقاء تفاوضي منذ مدريد, ولكن الاصح هو ان هؤلاء لم يعد يربطهم ببلد المنشأ الا(نوستالجيا) وطن المولد, اي الحنين المنطقي الذي غالباً ما تمحوه السنون, فالموساد الاسرائيلي والدعاية الصهيونية عبر التاريخ وضعا الطائفة اليهودية المغربية في حال من القلق الدائم دفعت ابناءها للرحيل الى اسرائيل تاركين خلفهم ذكريات مؤلمة بالرغم من ان ما عرفوه في المغرب لم يعرفوه في اية دولة اخرى.
ويعود تاريخ اليهود في المملكة الى ما يقارب الالفي عام, وهم عرفوا خلاله انماطاً متناقضة من العيش والعلاقة مع الحاكم, فتارة كانوا يهنأون برغيده, وتارات اخرى يعاملون على اساس (اهل الذمة) تحت رحمة او نقمة السلطان.
ولكن مع هجرة اليهود من اسبانيا الى المغرب منذ مطلع القرن الثالث عشر, بدأت ظروف يهود المغرب بالتحسن خصوصاً ان هؤلاء القادمين من الجوار كانوا اكثر ثقافة ونقلوا الكثير من الحرف اليدوية التي بقيت المصدر الاهم لرزق اليهود, وتوزعوا بعد النزوح الكبير عن اسبانيا والجوار على مدن فاس ومكناس (حيث نجد ابرز الحاخامات) وطنجة وتطوان والرباط وغيرها. وغالباً ما كانت بيوت اليهود واحياؤهم آنذاك تشبه حال المخيمات الفلسطينية اليوم بحيث تبنى متلاصقة الواحد الى الاخر منعاً للبرد وسط حالة من الفوضى والقذارة والامراض.
وبالرغم من تقلب الشروط وظروف الحياة, غير ان يهود المغرب التقوا مع مسلميه على قواسم مشتركة عديدة ولعل اكثرها لفتاً للنظر هو الالتقاء حول رجال الدين والقديسين, ويرصد البروفسور ايساشار بن عامي (هو على الارجح احد اقارب نائب وزير الخارجية الاسرائيلي الحالي شلومو بن عامي) والمولود في الدار البيضاء, 652 رمزا للعبادة منهم 126 قديسا يلتقي عليه اليهود والمسلمون, ويقول ان اليهود يعترفون بحوالي 15 حكيما مسلما بينما يؤمن المسلمون ب 90 قديسا يهوديا, ويتحدث بكثير من الاسهاب عن الحاخام عمرام بن يهودا الذي قدم الى شمال افريقيا للحصول على مساعدات لفلسطين لكنه اضطر لمنح حياته لابنه الذي كان شديد المرض, وبالفعل توفي فبات قديسا.
وبقي حكام المغرب محافظين على يهودهم رغم كل الهزات, لا بل انه حين كاد اليهود عرضة للذل والتمييز العنصري في اوروبا التي اجبرتهم دولها على وضع النجمة الصفراء على صدورهم لتمييزهم عن (المواطن العادي) فان المغرب حرص على الحفاظ عليهم وحمايتهم, وثمة عادة قديمة تتمثل بان يحيط السلطان او الحاكم نفسه باحد المستشارين او اكثر من الطائفة اليهودية.
وعشية نكبة فلسطين,كان عدد اليهود في الدار البيضاء فقط قد وصل الى 77300 يهودي اي ما يقارب 38 بالمئة من مجمل سكانها وارتفعت النسبة عام 1960 الى 45 بالمئة.
فلماذا هاجر يهود المغرب الى اسرائيل?
المراجع الحديثة تفيد بان الهجرة اليهودية الى اسرائيل قديمة, وغالبا ما كانت حركة الانتقال من المغرب الى ارض فلسطين محكومة باسباب دينية او اقتصادية, ولكن مع بداية القرن العشرين شكل 2500 يهودي مغربي اكبر طائفة لليهود في الاراضي المقدسة, وثمة من يؤكد ان النخبة اليهودية ذات الاصول الاسبانية فكرت قبل تيودور هرتزل في اقامة دولة يهودية على ارض فلسطين منذ عام 1853.
ومع قيام (المنظمة الصهيونية العالمية) بدات حركة الهجرة تاخذ طابعا مؤسساتيا منظما بغية تشجيع ابناء المغرب على الهجرة الى اسرائيل واعداد البنى الديمغرافية لهذه الدولة. وهكذا ففي عام 1948 كان يهود شمال افريقيا في اسرائيل يمثلون واحدا بالمئة من مجموع الهجرة اليها, بالرغم من ان الانتداب البريطاني سعى في البداية لحصر الهجرة باليهود الاوروبيين.
ولم يكن الوعي العربي آنذاك قادرا على التأثير على المغرب الذي بقي انتماؤه اصلا الى العروبة مثار جدل كبير سيما وان قسما لا بأس به من (البربر) كان كما اليهود يعتبر ان العروبة والاسلام هما امور طارئة وفرضت بالقوة, ويتندر المغاربة يهودا ومسلمون كثيرا باخبار (كاهنة) تلك اليهودية التي قاومت الغزو العربي. ويمكن الجزم بان شكيب ارسلان هو اول من جاهر بضرورة الانتماء المغربي الى العروبة والاسلام وكان في طليعة المحرضين على مقاومة المحتل والغازي والمنتدب في تلك المنطقة من العالم.
ومع دخول الفرنسيين الى المملكة المغربية وارتكابهم خطأ خلع محمد الخامس, عرفت الطائفة اليهودية انتعاشا خاصا سيما بعد ان تم رفع صفة (الذميين) عن اليهود, لكن تلك الحقبة مهدت الطريق ايضا لبداية الصراع الحقيقي بين الطائفتين, كما انها فرشت السجاد الاحمر امام تغلغل الموساد في الجسد المغربي.
ومنذ عام 1955 بدأت الاجهزة الاستخباراتية الاسرائيلية تدخل شمال افريقيا وتؤسس منظمات وفروعا خاصة بغية تحقيق ثلاثة اهداف, اولها بداية الهجرة الواسعة نحو اسرائيل, وثانيها تشكيل عصابات لخلق بلبلة داخلية تحت ذريعة حماية اليهود, وثالثها لاحقا التأثير على الزعيم جمال عبد الناصر بحيث يتم الالتفاف عليه من دول عربية مرشحة لأن تصبح حليفة وسندا له, ودول غربية بحاجة الى من يقدم لها المعلومات ويطفئ لهيب الشارعين العربي والاسلامي.
وفي تلك الفترة بالذات بدأت عمليات الهجرة الجماعية لليهود والتي ولاسباب معروفة كان بعضها يتم وكأنه (عملية هروب) وفي الكثير من الاحيان كانت السلطات المغربية تغض الطرف لسببين اولهما انها لا تريد ان تضع نفسها في احراج امام الدول العربية الأخرى وثانيها انها ولمصالح خاصة لا تريد منع الهجرة اليهودية, بالرغم من ان محمد الخامس الذي بقي (ولظروف خارجة عن ارادته) زعيما قوميا في عيون شعبه ومناهضا للاستعمار كان ينظر بعين القلق والامتعاض والحزن لهجرة اليهود على اعتبار انهم (ابناؤه) وان هجرة الابن هي نوع من نكران الجميل.
وهكذا نجد انه بين ربيع عام 1948 وصيف 1956 هاجر 92 الف يهودي الى اسرائيل, وسنجد ايضا, وهذا هو الأكثر مدعاة للاستغراب, ان قادة حزب (الاستقلال) أي الحزب الذي قاد الثورة ضد الاستعمار واعادة محمد الخامس الى العرش بدأوا الاتصال بإسرائيل منذ عام 1955, وحصلت اولى اللقاءات في نيويورك, وكان بعض قادة الحزب آنذاك يعتبرون ان اللقاءات طبيعية طالما ان الموضوع هم يهود المغرب وان بعض هؤلاء اليهود هم في صفوف الحركة الوطنية المغربية او في جمعية الوفاق التي أسسها الأمير الحسن الثاني (في عهد والده محمد الخامس) عام 1956.
وحصلت لقاءات كثيرة بين اعضاء في المؤتمر العالمي اليهودي ومهدي بن بركة (الذي كان عبد الناصر قربه اليه كثيرا والذي خطف وقتل لاحقا على الأراضي الفرنسية بمساعدة الموساد نفسه) ثم ان السلطان محمد الخامس ومن منطلق رغبته بالحصول على المساعدات الاقتصادية الفرنسية والاميركية آنذاك بدأ يخطب ود الطائفة اليهودية في بلاده ووصل به الأمر الى حد تعيين أحد ابنائها وهو ليون بنزاكن وزيرا للبرق والبريد في أول حكومة مغربية.
ولم يمنع انضمام المملكة المغربية الى جامعة الدول العربية العام 1958 من وقف هجرة اليهود, لكن الهجرة كانت تشهد دائما تقلبات عديدة, فتارة يتشدد المغرب ويضيق على هذه الهجرة وتارة اخرى تنفتح الابواب, وفي الحالتين كانت اجهزة الموساد تستمر في اخراج اليهود عبر مراكب وسفن بحرية لم يكتشف امرها على الصعيد العربي والعالمي الا مع غرق سفينة (ايغوز ((الجوزة بالعبرية) عام 1961 والتي كادت تسقط الحكومة الاسرائيلية.
لكن العلاقة بين الموساد والمملكة المغربية توطدت بعد وفاة محمد الخامس وخلافة الحسن الثاني له, ومنذ عام 1960 بدأت علاقة الموساد بالحسن الثاني تترسخ وذلك مع اكتشاف (مؤامرة) لاغتيال الأخير اتهم بها عدد من قادة الثورة وبينهم الفقيه محمد البصري, بالرغم من ان العام نفسه شهد الرحلة الهامة التي قام بها الحسن الثاني الى مصر وجولته الشهيرة الى جانب عبد الناصر.
ومع وفاة محمد الخامس (في ظروف لا تزال حتى اليوم غامضة) وتولي الحسن الثاني مقاليد السلطة عام 1961, لمع نجم جنراله محمد اوفقير الذي كان يتولى شؤون الأمن, في سماء إسرائيل, فهذا الضابط الذي تدرب على ايدي الاستعمار الفرنسي والذي سمي لاحقا بـ(سفاح الريف) نظرا لعمليات القمع والتعذيب التي اشتهر بها خدمة للملك وحماية له بعد ان اتسع الشرخ الى حد العداوة بين قادة التحرير والعاهل الجديد, سرعان ما جذب الاسرائيليين وصار احد ابرز محاوريهم وزار اسرائيل في عز الحروب العربية مع الدولة العبرية. كما ان الملك الحس الثاني كان قبيل وصوله الى العرش مرتبطا بعلاقة حميمة جدا ولسنوات طويلة مع فنانة يهودية قيل انها اثرت عليه كثيرا في علاقته مع طائفتها.
وسرعان ما اتسع الباب مع الحسن الثاني امام هجرة اليهود وعلى نحو كثيف جدا من المغرب, حيث انه بين اعوام 1961 و1966 سمحت عملية (ياخين) بهجرة ما يقارب 180 الف يهودي, وتقول الباحثة آنياس سيمون ان الملك في عام 1964 فرض 3 شروط للسماح بالهجرة اليهودية اولها ألا تتم الهجرة الى اسرائيل مباشرة وثانيها الا تتم عبر منظمات او جمعيات يهودية اسرائيلية وثالثها ان يحصل على مبلغ مالي, وبالفعل فقد حمل اسرائيليون الى حسابه المصرفي في جنيف مبلغ نصف مليون دولار كمقدمة حيث طلب 50 دولارا عن هجرة كل شخص, وهكذا ففي عام 1964 وحده سافر 100 الف يهودي وحصل وزير داخليته آنذاك رضى غديرة على 50 الف دولار بينما شقيقه الامير عبد الله افاد من بيع بطاقات السفر.
هذه الهجرة افرغت المغرب من يهوده, لكنها سمحت للملك بإقامة جسور جيدة مع إسرائيل ومع هؤلاء اليهود الذين يحفظون له جميل تركهم يغادرون البلاد بشبه حرية, ولذلك فإن العلاقات وصلت الى ذروتها بين الطرفين وتبين لاحقا (على الاقل وفق بعض روايات محمد حسنين هيكل) ان الملك كان عاملا مؤثرا في السياسة الاسرائيلية حيال العرب.
ولم يبق اليوم في المغرب إلا ما بين 6 الى 8 آلاف يهودي يتنقلون بحرية بين المملكة واسرائيل, اما المهاجرون فهم ينتمون في معظمهم الى تيار ليكود وحركة (شاس) المتدينة والمتطرفة.
ويقول الباحثون في اسباب رغبة من بقي من يهود المغرب اليوم بالرحيل, ان عدة اسباب تقف خلف ذلك اولها الاوضاع الاقتصادية بشكل عام ورغبة البحث عن مؤهلات وكفاءات وخبرات عالية, وثانيها عدم الاستقرار بسبب اوضاع الشرق الاوسط وتنامي التيار الاسلامي, وثالثها تحسن ظروف اليهود الشرقيين في اسرائيل بعد ان فرضوا انفسهم في مواقع القرار.
أما تأثير المملكة على اليهود في اسرائيل, فيبدو ضئيلا جدا, وقد كان رفض المغرب زيارة بنيامين نتنياهو عامل نقمة لمناصري ليكود من ابناء الطائفة اليهودية المغربية, تماما كما ان تحريك لجنة القدس التي تولاها المغرب اثار ولا يزال حفيظة متطرفي شاس واليمين المتشدد.
ولكن هل ان تولي الملك الشاب محمد السادس شؤون المملكة ووصول اليسار وقادة الثورة الى رئاسة الحكومة منع فعلا تغلغل الموساد في المملكة? وثمة سؤال للتاريخ فقط, ألم يكن تأثير الحسن الثاني أكبر على يهوده لو أبقاهم عنده? على كل حال لم يكن وحده من قبل ترحيلهم.
|