مجلة المجتمع الكويتية العدد1494
http://www.almujtamaa-mag.com/Detail...wsItemID=66804
المقاصد عند عالمين من المغرب:الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي
يعد الأستاذان محمد الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي في رأيي أكبر عالمين اهتما بمقاصد الشريعة الإسلامية في العصر الحديث،وقد أفرد كل منهما كتاباً خاصاً بهذا الموضوع هما "مقاصد الشريعة الإسلامية" للأول و"مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" للثاني. ويبدو أن الرجلين على اتفاقهما في الأساسيات لا يخلو مؤلفاهما من اختلاف في للثاني. ويبدو أن الرجلين على اتفاقهما في الأساسيات لا يخلو مؤلفاهما من اختلاف في الأسلوب والنقاط التي ركز عليها كل منهما، ويجوز أن نعيد هذا الاختلاف إلى اختلاف طبيعة المؤسسات التعليمية التي مر بها كل منهما: فابن عاشور على ما يبدو ظل فقيهاً مالكياً لم يخرج عن الأطر الفقهية التاريخية، على حين تأثر الفاسي بالتعليم الغربي في مجال القانون الذي تلقاه وهذا التأثر لم يجعله طبعاً مستغرباً من المستغربين الكثر في جيله ولكنه لفت انتباهه إلى مقارنات مع القانون الغربي فلسفة وتاريخاً ونصوصاً لا يجدها القارئ في كتاب ابن عاشور.
يرى ابن عاشور أن مقاصد الشريعة الإسلامية مبنية على وصف هذه الشريعة الأعظم الذي هو الفطرة النفسية والعقلية فقوله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (6) (التين) ليس المقصود منه أن الله عز وجل قوّم صورة البشر لأن هذه الصورة لم تتغير إلى أسفل. واستثناء الذين آمنوا من هذا التغيير يدلنا على أن المقصود تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة وليس تقويم الصور(1).
أما أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها فهو السماحة ويعني بها السهولة المحمودة المتوسطة بين التضييق والتسهيل وهذا هو معنى الوسطية ويرى أن السماحة عائدة إلى كون الشريعة دين الفطرة، والفطرة تنفر من الشدة والإعنات.
والمقصد العام من التشريع عند ابن عاشور هو "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه: صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه". ويستدل على ذلك بآيات صريحة كلية تدل على أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد ،منها ما يحكيه كتاب الله عن شعيب إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت (هود:88) وقول موسى لهارون \خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين 142 (الأعراف) وقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها (الأعراف: 56)(2).
وهذا المقصد العام يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد، وهو يقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، والكلية ما عادت عوداً متماثلاً على عموم الأمة أو جماعة عظيمة منها، فأما ما عاد على جميع الأمة فمثل حماية البيضة وحفظ الجماعة من التفرق وحفظ الدين من الزوال وحماية الحرمين وحفظ القرآن من انقضاء الحفاظ وتلف المصاحف وحفظ السنة من الموضوعات، وأما ما عاد على جماعة عظيمة من الأمة فمثل العهود بين أمراء المسلمين وملوك الأمم المخالفة وأما المصلحة الجزئية فهي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة وهي موضوع أحكام المعاملات.
وقسم المصلحة باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها إلى قطعية دلت عليها نصوص لا تحتمل التأويل أو دل العقل على أن في تحصيلها صلاحاً عظيماً أو في ضدها ضرراً عظيماً، وأما الظنية فما كان دليلها ظنياً وأما الوهمية فهي التي يتخيل فيها الصلاح وفيها عند التأمل الضر.
ويقسم الشيخ ابن عاشور المعاملات إلى مقاصد ووسائل، والوسائل هي الأحكام التي شرعت غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه الأكمل فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتهما وإنما شرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة(3).
أما المجاهد علال الفاسي الذي كان له باع طويل في الحركة السياسية المغربية فكان لا بد له من أن يكون أكثر اهتماماً بجوانب مقاصد الشريعة في ميادين السياسة الشرعية، ويظهر هذا الاهتمام في مناقشاته التي لا يتسع لها هذا البحث عن منهاج الحكم ومصدر السيادة في الإسلام وعن حقوق الإنسان والحرية السياسية والحرية الوطنية، غير أنني أحببت في هذا الحيز المحدود أن ألفت الانتباه إلى فكرتين مهمتين في الكتاب:
أولاً: مقياس المصلحة في الإسلام الأخلاق الفطرية:
يركز الفاسي على الفكرة القائلة إن الإسلام خلافاً للمذاهب الغربية العصرية مثل الاشتراكية والرأسمالية التي تعرف المصلحة بالنفع كما تراه الأهواء والأفكار والعقائد الوضعية المتغيرة يقيس المصلحة بالخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل. والأخلاق الفطرية التي تعارفت عليها الإنسانية منذ نشأت هي عند الإسلام "العرف" المأمور به، كما أن عكسها هو "المنكر" المنهي عنه. يقول الفاسي: "وهذه الأخلاق الفطرية يعتبرها الإسلام معروفة لدى الجميع..فالتشريع الإسلامي خاضع للعرف ولكن العرف في الإسلام ليس هو ما يتعارف عليه مجتمع ما، ولكنه ما تعارفت عليه الإنسانية منذ نشأتها"(4).
وهذه الفكرة مهمة للدعاة إلى الإسلام في عصرنا إذ إنها ترشدهم عند قيامهم بالدعوة في مجتمع ما إلى البحث عما تبقى في هذا المجتمع من العرف الفطري لاستخدامه في الهداية إلى دين الفطرة الإسلامي، وهو يقدم لهم أيضاً النقد الإسلامي الأهم للحضارة المعاصرة التي ابتعدت عن الفطرة فسببت للبشرية الكوارث والآلام.
ثانياً: فكرة أصولية: "أمر الإرشاد":
يرى الفاسي أن الشريعة تسلك طرقاً كثيرة لتحقيق مقاصدها: مرة بالمنع والإيجاب الصريحين ومرة بالتدرج في التشريع حتى اكتماله في حياة الرسول ص ومرة بتنفيذ الحكم في بعض صوره والتسامح في الصور الأخرى مع إعطاء الأمر عن طريق الإرشاد باستكماله إذا تمت أسباب استكماله الشرعية وهذا ما يدعوه "أمر إرشاد" ويمثل على ذلك الأمر بتحريم الخمر في الآية إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة (المائدة: 91) فدل هذا على أن قصد الشارع هو الابتعاد عن كل ما يحدث العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا أمر إرشاد. ويضرب على أمر الإرشاد مثلاً بإباحة الإسلام المؤقتة للرق وكثرة الأحكام التي تدل على رغبة الإسلام في السير في طريق إلغائه.
قلت: وهذا في رأيي صحيح. أما ما يستحق مزيداً من النظر فهو استنتاج الشيخ علال من الآية فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة (النساء:3) أن الشارع أرشد إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل، وهو برأيه أمر للأمة جمعاء أن يستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدد مطلقاً(5).
وفي رأيي فإن الشارع بالفعل أبدى ما يكفي من الإشارات للمتأمل لكي يقتنع أن تعدد الزوجات بلا سبب موجب أمر غير مستحب، ولكن لنا أن نشك في صحة رأي الشيخ علال أن الشرع يريد الوصول إلى الإلغاء التام لهذا التعدد (ففي حالات يكون هذا التعدد ضرورياً).
هوامش:
(1) ابن عاشور المجتمع . س ص 58 . (2) المجتمع . ن ص63 .
(3) المجتمع . ن ص 148 . (4) علال الفاسي مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها المجتمع . س ص 191 .
(5) المجتمع . ن ص 241240 .