وجاء بعد ابن تيمية تلميذه ابن قيم الجوزية الذي دافع عن الرؤية المقاصدية للشريعة دفاعاً رائعاً ولا سيما في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، فهو مثلاً يقول في ميدان شرحه للمبدأ الفقهي القائل إن العبرة في العقود للمقاصد والنيات: "ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، وقد لعن الرسول ص في الخمر عاصرها ومعتصرها، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنباً ولكن لمّا كانت نيته إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده، فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها. ومن لم يراع المقصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه ألا يلعن العاصر، وأن يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر"(8).
ونلاحظ هنا أن ابن القيم ينتقد نقداً عنيفاً وجهة النظر السطحية التي تحكم على الأفعال بظاهرها لا بمقاصدها، مما يضيع مقاصد الشريعة حين يحتال المكلف لجعل الحرام حلالاً بالالتزام بالظاهر وتناسي القصد الباطن. ويزداد التوجه المقاصدي لابن القيم رحمه الله وضوحاً في هجومه على من أباح ما يدعونه "الحيل الفقهية"، وهو يناقش المحلين لهذه الحيل مناقشة مصلحية قيمة قائلاً : "إن هذه الحيل تبطل مقاصد الشريعة وتناقض حكمتها فمثل المحتال مثل من سمى السم دواء ووصفه للناس" (9).
ثالثاً وقفة مع الاعتراض الظاهري:
من الخصوم الألداء لفكرة ربط الأحكام الشرعية بعلل وحكم معقولة، المذهب الظاهري الذي سنذكر هنا آراء لمنظره أبي محمد بن حزم رحمه الله لاعتقادنا أن عنده من المفيد ما يقوله(10).
يزعم ابن حزم أنه ما من أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم علل شيئاً من أحكام الشريعة "وإنما ابتدع هذا القول متأخروا القائلين بالقياس"(22). ويلجأ ابن حزم في إنكاره للتعليل إلى حجة أراها شخصياً في غاية القوة المنطقية، ولم أر أحداً رد عليه فيها ولم يذكرها د. الريسوني في مناقشته القيمة للمذهب الظاهري في كتابه الذي ذكرناه سابقاً لسبب لم أعرفه، وقد يكون عد هذا الاعتراض من المباحث الكلامية الفلسفية التي قال إنه لا يريد السقوط فيها.
يقول ابن حزم: "أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون: أهي من فعل الله وحكمه؟ أم من فعل غيره وحكم غيره؟ أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره؟"
وبعد أن رأى أنهم لا يستطيعون الخروج عن واحدة من هذه الثلاث قال إنهم سيقولون إنها من فعل الله عز وجل وحكمه، عندها سيسألهم: أفعلها الله تعالى لعلة؟ أم فعلها لغير علة؟ "فإن قالوا: فعلها لغير علة تركوا أصلهم (أي التعليل) أو قيل لهم: ما الذي أوجب أن تكون الثانية بلا علة والأولى بعلة وهذا تحكم غير دليل؟ وإن قالوا بل فعلها الله تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل إلى ما لا نهاية وأثبتوا وجود ما لا أول له غير الله وهذا كفر!"(12)
وهذه المحاججة تبدو في ظاهرها بالفعل كلامية فلسفية ولكنها تضع حداً لمن يريد أن يحكم العقل البشري في كل صغيرة وكبيرة من الشريعة والعقيدة وتثبّت الفكرة الصائبة القائلة إن من المطلوب منا الإيمان بأفعال لله تعالى وعقائد لا نعلم حكمتها. وعيب النظرية الظاهرية إنكارها التعليل في ذلك القسم من أحكام الشريعة الذي يستطيع العقل تعليله بل يجب عليه. وابن حزم يضرب أمثلة يراها مقنعة في إنكار التعليل مثل قولهم إن المشقة علة في حكم قصر الصلاة للمسافر فهو يقول: فلم لم تقصر إذاً للمريض والمشقة موجودة! وجوابنا هو أن المشقة تجلب التيسير أيضاً في هذه الحالة فالشارع طلب من المريض أن يصلي كما يستطيع ولم يلزمه بصلاة الصحيح. لا يصح إذاً إنكار التعليل في كل حالة لأن هنالك قسماً من أحكام الشريعة أساسياً يخص الظروف الموضوعية المادية لحياة الإنسان وهذه الظروف لها سنن (هي أيضاً من وضع الخالق عز وجلّ) والأحكام تنسجم بالضرورة في هذا القسم مع هذه السنن؛ وهذا الانسجام هو الذي ندعوه بالحكمة أو العلة فالله عز وجل جعل من خواص مادة الكحول التأثير في الدماغ البشري تأثيراً هو الإسكار، ولما كان هذا التأثير يتناقض مع مراد الله من بقاء الإنسان في حالة توازن عقلي كان الحكم بتحريم الخمر منسجماً مع هذا المقصد وناتجاً عن تلك السنة الطبيعية التي جعلها الله لتلك المادة.
وقد جعل الله من طبائع النساء الغيرة بين الضرائر، وهذه السنة الطبيعية اقترنت بمقصد شرعي هو التراحم بين الأختين فأدى هذا إلى الحكم بحرمة الجمع بينهما في الزواج.
وبالعودة إلى موضوع هذه الفقرة نقول: إن التعليل يقف هنا ولا نسأل عما هو بعد ذلك (فلا نقول مثلاً لماذا خلق الله الإنسان محتاجاً للزواج!) فأبو محمد رحمه الله إذاً تعجل بإيقاف التعليل؛ والتعليل حقاً يجب أن يقف عند نقطة هي ما بعد علة الحكم الأول وعندها يصبح فهم ابن حزم للآية الكريمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23) (الأنبياء) صحيحاً إذ إن البحث في الحكمة مطلوب شرعاً لحد هذه النقطة.
الهوامش
(1) عجبت لدفاع الدكتور البوطي في كتابه "ضوابط المصلحة" عن الحيل ونقده الشديد لابن القيم رحمه الله الذي كتب صفحات طوالاً في عدم صحة موقف من أباح هذه الحيل.
(2) مصطفى أحمد الزرقاء "الاستصلاح والمصالح المرسلة" ص26 .
(3) انظر شرحاً مفصلاً لهذا الدليل عند مالك رضي الله عنه في كتاب الشيخ محمد أبو زهرة "مالك" وانظر أيضا شرحاً تفصيلياً لكل من "الاستحسان" و"المصلحة المرسلة" والفرق بينهما في كتاب الشيخ مصطفى الزرقاء المذكور في الهامش السابق.
(4) أحمد الريسوني المجتمع . س ص7263.
(5) أبو المعالي الجويني البرهان في أصول الفقه تحقيق عبد العظيم الديب ط2 1400ه دار الأنصار القاهرة ص295 . في:أحمد الريسوني المجتمع . س ص34 .
(6) ابن تيمية مجموع الفتاوى مكتبة المعارف الرباط ص 48
في: احمد الريسوني المجتمع . س ص53 .
(7) ابن تيمية "القواعد النورانية الفقهية" ص204 .
(8) ابن القيم إعلام الموقعين عن رب العالمين ص95 .
(9) المجتمع . ن ص180 .
(10) في كتاب د. الريسوني سالف الذكر مناقشة قيمة لاعتراض ابن حزم على تعليل الشريعة (انظر الكتاب المذكور ص 232216) ولكن هذه المناقشة مع ذلك لم تكن شاملة لكل محاججات أبي محمد رحمه الله وبرأيي فإن بعض هذه المحاججات في غاية القوة وهي تخدم الشريعة في التخفيف من غلواء النزعة العقلية المتطرفة.
(11) ابن حزم الإحكام في أصول الأحكام ص1447.
(12) ابن حزم المجتمع .س ص14471446.
|