المصالح والمفاسد
نحن إذاً نعتقد أن الشريعة مقصدها الدائم جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن الله عز وجل، تكرماً ومنةً منه على الخلق، لا يأمر إلا بالأصلح وهذا ما يستطيع الإنسان بفطرته معرفته غالباً وإن عجز بعض الناس في بعض الأوقات عن فهم المصلحة في بعض جزئيات الشريعة.
والمصلحة التي نتكلم عنها هي المصلحة الشرعية التي جاءت بها كليات الشريعة أو جزئياتها وهي المصلحة الحقيقية التي يجوز أن تعلل بها الأحكام لا المصلحة الزائفة المستندة إلى الهوى العابر أو المصلحة الفئوية أو الطبقية أو ما شابهها مما يسير عليه الضالون أفراداً وجماعات، وقد جاء علماء الأصول بتقسيم ثلاثي للمصالح التي أخذت بها الشريعة الإسلامية فقالوا إن الشريعة إنما وضعت للمحافظة على الضروريات والحاجيات والتحسينيات، أما الضروريات فهي ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منها لاستقامة مصالحهم وبدونها يختل نظام حياتهم وتعم فيهم الفوضى والفساد. والضروريات عند جمهور العلماء خمسة: الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وأما الحاجيات فهي ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة واحتمال مشاق التكليف وأعباء الحياة وإن فقدت لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى ولكن ينالهم الحرج والضيق.
وأما التحسينيات فهي كل ما تقتضيه المروءة والآداب وإن فقدت لا يختل نظام الناس كما لو فقدت الضروريات ولا ينالهم حرج كما لو فقدت الحاجيات ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة. فالتحسينيات بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات(9).
في الضروريات الخمسة شرع الجهاد لحماية الدين من العدوان ولمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه، وفرضت العقوبة على المرتدين والمبتدعين وحجر على المفتي الماجن. ولحفظ النفس شرع لإيجادها أولاً الزواج ولحفظها ثانياً حق كل إنسان في أن ينال ما تقوم به حياته من مأكل وملبس ومسكن، وحرم الانتحار والقتل العمد وأبيح الدفاع عن النفس. ولحفظ العقل حرم الإسلام الخمر والمخدرات وقد يضيف المرء إلى هذا تحريم كل ما من شأنه الإضرار بالصحة العقلية من أنواع مفسدات العقل. ولحفظ النسل جاءت أحكام الزواج والطلاق والعدة وحد الزنى وحد القذف أيضاً.(10) ولحفظ المال شجع الشرع على كل النشاطات المنتجة من صناعة وزراعة وتجارة ووضع التشريعات الكثيرة التي تنظم إنتاج السلع وتوزيعها وتنظم المبادلات مثل أحكام البيع والإجارة وغيرها. ولحفظ المال أيضاً شرع الحد في السرقة وحرمت المبادلات التي فيها غبن لأحد الطرفين والغرر عموماً وأكل أموال الناس بالباطل وحرم الربا تحريماً مغلظاً إلى آخره. ويضيف بعض العلماء العرض (وهو في اللغة موضع المذمة والحمد في الإنسان، فهو لا يقتصر على مفهومنا الآن لهذه الكلمة) إلى الضروريات وتصبح بهذا ستة.
وفي الحاجيات شرع الإسلام كل ما يرفع الحرج وييسر المعاملات: شرع الرخصة عند المشقة وشرع بعض العقود التي تيسر على الناس وإن خالفت القواعد العامة للعقود وكما أبيحت المحظورات للضرورة أبيحت أيضاً للحاجة.
وللحفاظ على التحسينيات شرعت الطهارة للبدن وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد وشرعت قواعد معاملة الناس بالحسنى والعفو عند المقدرة وإنظار المعسر وإفشاء السلام وتحريم المقاطعة بين المسلمين وشرعت مكارم الأخلاق وأقر ما كان منها في الجاهلية.
ولاعتبار المصلحة في الشرع ضوابط تكلم عنها الفقهاء (ومن أشهرهم أبو حامد الغزالي)، ومن هذه الضوابط أن يكون للمصلحة ما يشهد لها من كليات الشريعة وألا تقترن بمفسدة أعظم منها وأن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية، كلية لا تخص فرداً أو فئة بالتعارض مع مصلحة الجماعة. ومن شروط اعتبارها ألا تناقض نصاً قطعياً ثابتا؛ً خلافاً لرأي شاذ قال به نجم الدين الطوفي قديماً ووجد حديثاً من يرحب به من المبهورين بالثقافة الغربية، وهذا الرأي يقول بتقديم المصلحة على النص عند التعارض.
ومن الذين تصدوا للرد على هذا الرأي في عصرنا د.محمد سعيد رمضان البوطي وخلاصة رده:
أولاً: إن الطوفي يناقض نفسه حين يقول إن الشريعة لم تأت إلا لرعاية مصالح العباد ثم يقدم هذه المصالح على نصوص الشريعة.
ثانياً: إن المصلحة ما هي إلا فرع مستخلص من نصوص الشريعة وبالتالي فهي ليست دليلاً مستقلاً قسيماً للنص عند تقسيم الأدلة.
ثالثاً: إن الطوفي يناقض نفسه فيقول إن المصلحة مجمع عليها، فهي أقوى حتى من دليل الإجماع إذ اختلف في هذا الدليل!.
رابعاً: إن الطوفي يخلط بين اختلاف المجتهدين في تأويل النصوص واختلاف النصوص نفسها إذ إن النصوص لا تتعارض وإنما قد تتعارض تأويلاتها(11).
والشريعة تقوم على ميزان دقيق بين جلب المصالح ودرء المفاسد، وثمة قواعد فقهية كثيرة توجه المجتهد في هذا المجال مثل: "الضرر يدفع قدر الإمكان"، "الضرر لا يزال بمثله"، "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"، "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام" وغيرها.
وفي الواقع إن القواعد الفقهية التي تخص الميزان المصلحي الدقيق الذي نتكلم عنه تستغرق أغلب هذه القواعد حتى تلك التي لا تبدو علاقتها مباشرة مع موضوع المصلحة فإذا أخذنا مثلاً القاعدة الكبرى التالية "اليقين لا يزول بالشك" نستطيع بقليل من التأمل أن نرى القدر الهائل من المصالح المنوط بالأخذ بهذه القاعدة ومقدار المشاق والمفاسد التي سنتحملها إن لم نأخذ بها.
الهوامش
(1) "مقاصد الشريعة الإسلامية" الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص8 .
(2) المجتمع . ن ص 51 .
(3) المجتمع . ن ص 146 .
(4) "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" علال الفاسي ص3 .
(5) أحمد الريسوني "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" ص7 .
(6) المجتمع . ن ص7 .
(7) المجتمع . ن ص 8 .
(8) محمد الطاهر بن عاشور المجتمع . س ص71 .
(9) عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه بلا دار نشر ولا مكان طباعة الطبعة العشرون 1406ه 1986م ص196 204 .
(10) حد القذف يمكن من جهة أن نعده حفظاً للنسل لأن فيه تشكيكاً بالنسب وهو من جهة أخرى يمكن عده حفظاً للعرض وثمة فرق بين مفهومي "حفظ النسل" و"حفظ العرض" فالأخير يخص كل ما يتعلق بالسمعة الاجتماعية للإنسان وإنما جرى الخلط حتى عند عالم متبحر مثل الأستاذ عبد الوهاب خلاف بسبب تغير دلالة كلمة "العرض" بين عصرنا وعصر علماء السلف.
(11) د. محمد سعيد رمضان البوطي "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" ص190178
|