ولقد قلت في ما سبق إن تسمية اللجنة التي أتحدث عنها <<دعم الانتفاضة>>، هي تسمية في محلها. في رأس ما قامت به هذه اللجنة من نشاط هو حملتها لجمع التبرعات المالية في كل انحاء قطرنا لدعم الانتفاضة. وقد لبى الشعب بسخاء الدعوة الى التبرع، على ما تنطق به الأرقام التي تنشرها الصحف عن محصول ما قدمه الشعب من كل الطبقات وفي كل المحافظات. غير ان تساؤلا آخر تبادر الى ذهني حين قرأت في احدى هذه الصحف، وفي عدد منها منشور بتاريخ 8 نيسان 2002 الخبر التالي:
<<دمشق: سلم السيد احمد عبد الكريم رئيس اللجنة الشعبية العربية السورية لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني امس السيدة أنجيلا وليامز مديرة مكتب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين بدمشق <<الأونروا>> شيكا بمبلغ 30 مليون ليرة سورية دفعة جديدة وعاجلة من تبرعات جماهير شعبنا السوري لإخوتهم الفلسطينيين الذين يواجهون بقوة وصلابة الوحش الصهيوني وآلته العسكرية... الخ>>.
إذن فقد قدمت تبرعات جمعت لدعم الانتفاضة الى الأونروا. الأونروا كما نعرف هي هيئة تابعة للأمم المتحدة تقوم بتقديم الأغذية الى اللاجئين الفلسطينيين وتتعهد صحتهم وتعينهم في دراسة ابنائهم. هؤلاء اللاجئون هم اخوتنا وأبناؤنا ويستحقون كل مساعدة منا، وهذه الملايين الثلاثون تضاف الى ميزانية الأونروا، وهي ميزانية تدفع اموالها في العادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومنها دولنا العربية. ولكن الأونروا لا تنفق، ولا تجرؤ على القول إنها تنفق ليرة واحدة على دعم الانتفاضة. فلماذا يتبرع الناس لدعم الانتفاضة وتسلم تبرعاتهم الى هذه المؤسسة الدولية البعيدة عن الدعم الصحيح للانتفاضة؟
هذا هو التساؤل الذي تبادر الى ذهني عند قراءة خبر الصحيفة المنشورة أعلاه. وقد قلت في ما سبق إن الجزء الاول من تسمية اللجنة، لجنة دعم الانتفاضة، تسمية في محلها. وما أخشاه هو أن يدعوني تساؤلي هذا الى ان أعدل عما قلته، وأن اعتبر أنها كذلك تسمية في غير محلها...
كل ما تحدثت عنه في ما سلف يعيدني الى القول بأن ما نراه حولنا من صخب وضجيج، وحتى من تصرفات يخيل إلينا أنها جادة وتختلف عن تصرفاتنا في خمسين سنة فاتت، هي تململ وليست استفاقة. الاستفاقة تكون بالرجوع الى دراسة اسباب محنتنا وانهيارنا الحالي الذي تقتصر ردة فعلنا عليه بهذا الصخب والضجيج. حين نستفيق، اي حين نقرر التأمل في ماضينا في الفترة التي أتحدث عنها، ستكون خلاصة ما نقع عليه ان هناك مراحل ثلاثا جر بعضها بعضا وانتهت بنا الى هذه النهاية. المرحلة الأولى تمثلت في سوء السياسة الذي جر الى الفساد الذي جر الى الضعف والخذلان والهوان.
سوء السياسة له اسبابه المتعددة. بعض الذين تولوها وسيروها قد يكونوا أساءوا لأنهم كانوا غير أكفاء، حتى لو انهم كانوا حسني النية ومخلصين. وبعضهم أساءوا لأنهم كانوا معجبين بأنفسهم، يعتقدون بأن إخلاصهم وكفاءاتهم تجعلهم في نجوة من الأخطاء، كما أنها تعطيهم الحق بأن يحتكروا السلطة لأنفسهم، وتبرر لهم الوسائل الفاسدة ما دامت الغاية التي يعملون لها سليمة. وهناك متولون للسياسة ومسيرون لها في انظمتنا العربية، في تلك الفترة التي اريد ان تدرس، هم أخطر من هذين الصنفين اللذين تكلمت عنهما. منهم اولئك الذين يدخلون في صنف العملاء، ومنهم الطغاة المتسلطون الذين لا تدخل مصلحة الناس والأوطان في حسابهم او في تفكيرهم. هؤلاء وأولئك مجرمون أمسكوا بأزمة الأمور في بلادهم في فترات من الزمن قصرت او طالت، وساهموا في تعميم الفساد الذي هو المرحلة الثانية من مراحل انحدارنا الى الهوة.
من الذي يستطيع أن ينكر وجود الفساد في امورنا العامة وتماديه الى امورنا ومصالحنا الخاصة، ثم تناميه وتزايده يوما بعد يوم؟ إننا نشاهده ونتحدث عنه ونتطرق اليه احيانا، على استحياء، في كتاباتنا، كواقع نحن صابرون عليه ونكاد نكون متقبلين له. الصبر وشبه التقبل للفساد المعمم والمتزايد نكاد نعذر عليهما. ولكن الذي لا نعذر عليه هو عدم إدراكنا مكانة هذا الفساد وأثره في اضعافنا الى الدرجة التي نحن فيها اليوم. إنه السوس الذي نخر في أصل شجرتنا وجعلها فارغة هشة، مهددة بالسقوط لأقل نفخة ريح. وقبل ان تسقط حرمها النماء والإثمار وبسط الظل الوارف على من يعتمدون عليها في اللجوء والتفيؤ والغذاء. لو أدركنا هذا لدفعنا إدراكنا الى التفكير الصحيح بما جره علينا الفساد الذي جرته إلينا السياسة السيئة كمقدمة الى السعي للتخلص منه. ولكننا، حتى اليوم، لا نزال متوقفين في تأثرنا على ما نراه ونسمعه من احداث يومنا الذي نحن فيه، فنبكي وننتحب، او نصرخ ونصخب على الحاضر. البكاء والانتحاب والصخب والصراخ تبدو جميعها لنا نوعا من الإلهاء، او نوعا من التنفيس عن ضغط الحزن والغضب. ولعل هناك جهات معينة، مشكوكا بصدقها وإخلاصها، تساهم في صنع ذلك الإلهاء وهذا التنفيس لصرف الجماهير عن القيام برد الفعل الصحيح على ما تعيشه وتتحمله، بل في صرفها حتى عن التفكير برد الفعل الصحيح هذا.
الفساد هو المرحلة الثانية. والمرحلة الثالثة هو ما نحن فيه اليوم: ضعف لا يقاس به ضعفنا الذي كنا عليه قبل خمسين عاما، أمام قوة لعدونا لا تقاس بالقوة، بل للضعف، الذي كان عليه هذا العدو قبل خمسين عاما. واقعية ضعفنا وقوة عدونا اصبحت تقدم إلينا كمبرر لا مطعن فيه لوقوفنا منتحبين امام الكوارث التي تنزل بنا، دون ان تبدر منا بادرة مقاومة ايجابية وعملية في الحاضر، ولا في المستقبل.
لعل سائلا يسألني قائلا: ما تذكره عن الحاضر مفهوم، وقد يكون مقبولا... ولكن المستقبل، لماذا لا تكون لنا مقاومة ايجابية وعملية فيه؟ جوابي على هذا السؤال هو ان كل ما أتمناه وما أدعو اليه ان تكون لنا في مستقبلنا قدرة على المقاومة الايجابية الفعالة لما يخطط أعداؤنا لنا من شرور. ولكني لا أرى، في الحاضر على الأقل، اتجاها بينا للعمل في السبيل الذي اتمناه وأدعو اليه. الأنظمة التي اوصلتنا الى هذا الدرك، والتي تدعي أنها تتمنى الخلاص منه، لا تزال على عقلياتها السقيمة والخاطئة والعاجزة في العمل. وهذا ما يجعلني أتمثل دائما بقول الشاعر القديم:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
نريد من سفينتنا ان تجري على اليبس، وهذا لن يقودنا قطعا الى النجاة التي نرجوها. أحد الأدلة على ذلك ما قلته وكررته في مطلع هذا الكلام من أني لم أجد احدا من الصاخبين صراخا بالكلام او كتابة في الصحف او محاضرا في الندوات، لم أجد احدا من هؤلاء وأولئك تطرق الى اسباب محننا الكثيرة لنتخلص منها، ولنصل الى النجاة المرجوة والمطلوبة. وأظل اقول إن ما يملأ ساحاتنا من صخب وضجيج إنما هو إلهاء للجماهير، وللنخبة ايضا، وتنفيس لضغوط النقمة والاستنكار والغضب.
وأظل أبحث عن الاستفاقة التي يجب ان تدفعنا اليها الانتفاضة، ببطولاتها وبمآسيها، فلا أجد إلا تململا وأحيانا تصرفات مزعجة. بعض هذه التصرفات، من بعض الجهات المنتصرة للانتفاضة والمعجبة ببطولاتها، تكاد تدعو الى الضحك الشبيه بالبكاء بالسخرية المرة التي تثيرها.
مررت في الأيام الأخيرة بمدينة حلب فلفتت نظري في ساحات متعددة من هذه المدينة الكبيرة لوحات عريضة مكتوب عليها بأجمل الخطوط وأبهى الألوان هذه الجملة: الانتفاضة يجب أن تستمر!
قيل لي إن مثل هذه اللوحات التي تحمل الجملة الداعية الى استمرار الانتفاضة وما يشبهها في معناها موجودة في العاصمة، وربما في مدن اخرى من مدن القطر. ألا يحق لنا أن نتساءل عن ناصبي هذه اللوحات الذين يدعون الى استمرار الانتفاضة، وهي مستمرة بسواعد اطفال فلسطين وفدائييها ومفجري انفسهم في مستوطناتها، أن نتساءل عن ناصبي هؤلاء اللوحات وعن مساهمتهم الشخصية في استمرار الانتفاضة؟ إنهم بلا شك جالسون وراء مكاتبهم، يلفون ساقا على ساق وينفثون دخان سجائرهم، ويدعون دعوتهم هذه بحروف على ورق او بألوان زاهية على لوحات عريضة موزعة في الساحات، صارخين: استمروا أيها الاطفال في مجابهة دبابات اسرائيل بحجارتكم، واستشهدوا يا ايها الفدائيون بأحزمة الألغام التي تلفونها على اوساطكم... نحن هنا نصفق لكم وننظم في بطولاتكم القصائد ونقيم الحفلات الخطابية في دعم انتفاضتكم المقدسة!
في أكثر من مرة قلت في احاديثي، وفي الإجابة على اسئلة طرحت عليّ في الحوارات الصحفية، إننا اليوم اصبحنا يهود هذا الزمان. يهود ذلك الزمان دعاهم سيدنا موسى الى قتال محتلي الارض المقدسة فقالوا له <<فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون...>>. أليس هذا ما نقوله نحن اليوم، حين ندعو الى استمرار الانتفاضة ونحن ها هنا قاعدون؟! ولهذا قلت إننا يهود هذا الزمان، وإن لم يعجب هذا القول الآمرين بكتابة تلك اللوحات الجميلة، الموزعة في ساحات مدننا الكبيرة.
|