الفن الحديث والنص الحديث هما ناتج عما دعاه فوكو "موت الإنسان" في الحضارة الغربية المعاصرة فهي حضارة وصلت إلى الحد الأقصى من الاغتراب وتشييء الروح بحيث أن الأشياء استقلت بذاتها وسيطرت على صانعها البشري بحيث فقد الإنسان الإحساس بالمعنى والاكتئاب العميق هو الأب الروحي لهذا الفن على حين تميز الفن قبل ذلك (ولا زالت ميزته هذه موجودة في فننا التقليدي) بأنه فن نابض بالانفعالات والعواطف والحيوية.وأمام الثقافات غير الغربية واجب حتى تجاه الإنسان الغربي الضائع هو أن تقدم نموذجاً مغايراً لفن لم يتشياً بعد ولكيلا لا يرى القارئ أن هذا مطلب مستحيل سأذكره بمثال واضح هو مثال الرواية.
لقد انعكس الاغتراب العميق للإنسان الغربي في الروايات الجديدة من "تيار الوعي" وخصوصاً روايات الفرنسيين ألان روب غرييه وناتالي ساروت. وفجأة وفي هذا الوضع الخانق وفدت إلى أوروبا من شعوب سمراء لها تاريخ ثقلفي مختلف هي شعوب أمريكا اللاتينية روايات تطرح رؤية مختلفة وشكل جديد :الواقعية السحرية التي ماركيز أشهر ممثليها واستطاعت هذه الرواية أن تفرض وجودها في أوروبا بدون أي تملق للقيم الغربية تعودت الروايات المكتوبة بقصد الترجمة التي كتبها عرب وغير عرب من بلدان عالم ثالثية أخرى أن تقوم به.
فلنصبر قليلاً ولنحاول استنباط أشكالنا الخاصة وصدقوني: بهذه الأشكال وحدها يمكن لنا أن نعبر عن أنفسنا وليس ذلك وحسب: بها وحدها يمكن لأدبنا أن يصبح عالمياً!
وهذا يوصلني إلى النقطة الأخيرة التي أريد إيرادها في هذه المداخلة: خلافاً لما قد يكون نتج من انطباع عند قارئ السطور السابقة أنا لا أدعو بالضرورة إلى الجمود على أشكال أدبية معينة. ومحاججتي انطلقت من مبدأين:
أولاً: إن الأشكال الغربية ليست قدراً مقدوراً ولا هي تتمتع بأي تميز خاص أو مشروعية تاريخية.التقدم موجود في العلم الطبيعي وفي التقنية ولكنه لا يسري بنفس الطريقة على عالم الأدب فها هنا لا نعد الأدب الغربي متقدماً على العربي كما أن ساروت غير "متقدمة" على ماركيز.
ثانياً: إن أشكالنا نحن نحتفظ بما نشاء منها ونغير فيما نشاء على أساس حاجاتنا وتجاربنا الخاصة ولا تتمتع الأشكال الغربية بأي إجبارية وهي ليست ا"لأفضل" أو "الأكثر تقدماً".
ومن الأمثلة التي أضربها مثال الرواية والأشكال الحكائية التراثية: إن كلاً من الروائيين جمال الغيطاني وأميل حبيبي استطاع أن يبدع رواية حديثة عربية استمدت من التراث العربي ولكنها لم تنسخه ولم تنسخ النماذج الغربية.
وإنني أرى أن الشعر العربي أيضاً عليه أن يقدم نموذجاً مماثلاً للتجديد الأصيل.
|