تتمة الموضوع ..
وإذ تفلس آماله فى الحب والمعرفة فيدهمه القدر وتضربه العناصر فيختبر المأساة والفاجعة لا يثبت له إلا ضجره وتوقه الى نسيان كل شيء بعد الموت. ولكنه يشعر بأنه قد حكم عليه بالاستمرار فى نوع آخر من الوجود فى الغيب فيعتزم قفزة نهائية إذ يتخلى عن حواسه وعقله وعن الاستعانة بالبينات الظواهرية ليلج الغيب عن سبيل الرفض والسلب عبر المعقول والمحسوس، فالغيب - الله - ظلام أبهى من النور، وأخيرا فى رحلة عبر الموت إذ تتعطل الحواس وتنخلع الصور ويدرك الفقر الأقصى لا يبقى من الانسان كله سوى انتظار معلق على موعد مع غريب. يجيء إذاك رسول الغربة فيقوده الى التغرب اللامتناهي. هذا الضيف العتيد الآتى من الغيب الباطنى وراء الظواهر تلك التى كانت تعلنه وتستره بوقت واحد هو غاية كل نشوء وارتقاء وبغية كل عهد قديم وحديث يأتى فى آخر الزمن - كما يأتى كل يوم بصورة مستورة تحت الأعراض القربانية، رمز الأعراض الكونية المدعوة الى التجوهر "فيتعشي" معنا ويخبرنا عن قصتنا التى هى قصته بينما يتجلى رويدا رويدا ويقلب الظواهر على البواطن فإذا هو الكل فى كل شيء".
وقد كتب هذه المقدمة فى إسكالا Escala فى جبال البيرنه يقول فى النشيد الثالث "سفر التخلى والموت".
"أسرى إليك أنا الغريب/وتروح تنبذنى الدروب/ عنها، وتنهرنى السماء/ويسخر الأفق الرهيب/ ومطيتى زمن كسيح/ والمدى سفر رتيب/فتشت عن فردوسى المسلوب/أسأل عنه من حدب/الى صوب/فى الفجر فى العتمات/فى الأمجاد فى الايقان/فى الريب/بين الفصول وفى نهايات الحواس/وجئت أسأل عنه/فى الغيب".
ويقول فى القصيدة التى افتتح بها الديوان:
"زوّرتنى الحياة فمن أفراحها/وجعي، ومن ظلماتها أنواري
ما الذنب ذنبى إن قسمت لريشتي/بث الجراح ورعشة التذكار
طوفت بى المجهول حتى طرحتني/منى إليك فريسة الأسرار
فولجت أخبر ما العذاب على الهوي/فيها وجئت معى عذاب النار
أنى رحلت وجدت وجهك قبلتي/وقوافل العتمات فى آثاري
وإذا نزلت فعند بابك منزلي/أو حرت فى العتمات أنت محاري
هجرتنى وأضفتنى فأعدت لي/وطنى وأهلى فى لقاك وجاري
فخذ البقايا من صباى يردها/ أمسى إليك وذكريات نهارى
لغة معطلة وعهدا موحشا/والحب بينهما غريب الدار".
مركزية الميتافيزيقا
لقد مثل الغيب أو الميتافيزيقا مبحثا مركزيا لدى الشعراء المفكرين أو الشعراء الفلاسفة كالمعرى والمتنبى وأبو تمام وجلال الدين الرومى وشمس الدين التبريزى وفريد الدين العطار وشكسبير وغوته وتينسون وطاغور وجبران والخيام وغيرهم كثير، ذلك أنه سيظل قضية الزمن المطلق ومبحث المباحث يلازم الانسان ملازمة الروح للجسد.
وسوف نعتمد قصيدة أمين الريحانى "الى الله" كمثال للشأن الميتافيزيقى الذى سيطر على الشعراء الفلاسفة ولوّن كل نتاجهم (8)، يقول فيها مخاطبا الذات الكاملة:
"عبثا طلبتك فى أديان الناس
عبثا بحثت عنك فى سرادب عقائد الناس
ولكنى لقيت فى كتب العالم المقدسة
بعض آثار سماوية طامسة
فلقد توضح لى حرف ساكن من اسمك فى "الفيدا"
وحرف فى "الزند آفستا"
وحرف فى الإنجيل
وحرف فى القرآن
أجل - وفى كتاب الجمعية العلمية الملكية
وسجلات جمعية المباحث النفسية
بعض الحركات التى لا يحسن الطفل البشري
أن يحرك بها الأحرف الساكنة من اسمك
وأنّى لأمم الأرض وهى فى طفولة الحياة
أن تحسن النطق به؟
من يهدينا الى تلك الهمزات..
همزات الوصل الإلاهية
التى تجمع بين الكواكب البعيدة المتقابلة
فى أطراف الأفلاك السماوية
فلقد خطت على نقاب السر الأبدي
كلمات، وأمحت ثم خطت وأمحت
كل أمة من أمم الارض أدركت حرفا
من هذا الطلسم العظيم
لكن الحركات وهمزات الوصل لا بد أن يأتى بها
علماء المستقبل لتحيى جمودا
فى أحرف الكتب المقدسة الساكنة
وتبعث فيها سلاسة الماء والهواء
وتزيل اللكنة من لسان
هذا البشرى الطفل ومن قلبه".
يعرف ماتيو أرنولد الشعر فيقول بأنه نقد للحياة ونقد الحياة لا ينطلق من فراغ فهو يستدعى سبراً لأغوار الذات وإدراكا دقيقا لمعنى الحياة وامتلاكا للأدوات وهذا ما جعل عز الدين المدنى يعتبره (الشعر) البعد الرابع للكون.. يقول: "الشعر درع للقيم فهو حر ولا يناضل إلا فى سبيل الحرية بل الشعر هو الحرية - كذلك الشعر عشق، فهو معين متدفق دائم وإحساس فكرى وجدانى إلاهى عارم يجرف معه حتى أملاح الارض ورواسب الدهر - والشعر يقرع أبواب الغيب ويدخله دخولا سردابيا بعيد الغور فإذا هو البعد الرابع للكون وهو يمتشق التوقع والاحتمال والحسبان والإمكان ليبلغ أعلى مراتب التنبؤ فإذا هو كتاب مسطور وقدر محتوم بصير بصره من نور وهاج وهو يحمل على كاهله عبء الغد فى اليوم الحاضر فإذا هو عرش المستقبل ولغة الآتى واللاحق وتاج الشباب الأزلي".
ويبلغ المتنبى قمة الزهو بشعره عندما يعتبر الدهر من منشديه وأن الجميع يستوون فى تذوقه لكأنه حقيقة مطلقة، فالأعمى يراه والأصم يسمعه وهو ما حدا بالمعرى أن يؤلف فيه كتابه "معجز أحمد" والمعروف عنه أنه كان شديد الانبهار به حتى أن بعضهم ذهب الى القول أن المتنبى كان يقصده بقوله "أنا الذى نظر الأعمى الى أدبي" علما بأن المتنبى سابق على المعري...إنها إشراقة شاعر نبى لا متنبئ وليس يرى مجد الحكمة إلا من كان بصر عينيه فى قلبه لا بصر قلبه فى عينيه وقد قال شاعر مضيء البصيرة لديه إحساس حاد باتجاهات الزمان:
"لماذا الذى كان ما زال يأتي
لأن الذى سوف يأتى ذهب
إنه السؤال الماثل والجواب المتوقع المرتقب"
ـــــــــــــــــــــــ
محسن العونى .. كاتب وباحث من تونس
1) الجلجلة: الجبل الذى حمل المسيح صليبه الى قمته.
2) كولنجوود، فكرة التاريخ ص 195 ترجمة محمد خليل بكر، ومحمد عبد الواحد خلاف لجنة التأليف والترجمة والنشر الطبعة الثانية، القاهرة، 1968م.
3) جورج جرداق، روائع نهج البلاغة، ص 15 - 16، دار الشروق د.ت.
4) د. عبد السلام نور الدين، العقل والحضارة، ص 12 - 13، الطبعة الاولي، 1987، دار التنوير بيروت.
5) العقل والحضارة، ص 34.
6) جورج جرداق، روائع نهج البلاغة، ص 7 .
7) د. كمال اليازجي، جذور فلسفية فى الشعر العربى القديم والمولد، ص 5 - 6 دار الجيل، ط1، 1992.
8) ترجم الريحانى هذه القطعة من كتاب خالد سنة 1913، ولقد نقلناها عن مجموعة شعره المنثور "هتاف الأودية" (دار الريحاني، بيروت 1955)، ص 56 - 58.
المصدر: العرب اونلاين
__________________
معين بن محمد
|