( 4 )
أثر هذه الليلة عند الله تعالى
روى الإمام مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم فى خطبته (( ألا إن ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى يومى هذا : كل مال نحلته عبدا حلال وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ( محفوظ فى الصدور ) تقرؤه نائما ويقظان ...... ) الحديث
هذا الحديث يبين كيف أن الله تعالى الذى قال لملائكته بكل قوته وقدرته وعلمه وعزته الإلهية (( إنى أعلم مالا تعلمون )) ( * البقرة 30 ) هو ذاته الذى مقت هؤلاء البشر عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال الإمام ابن كثير فى تفسيره لقول الله تعالى (( هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين )) ( * الجمعة 2 ) ( فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل وقد اشتدت الحاجة إليه وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب أى نزرا يسيرا مما بعث الله به عيسى بن مريم عليه السلام) فصارت كل الظروف مهيأة لأن يأتى الله تعالى بذلك الدين الجديد الذى سيعيد أهل الأرض على هيئتهم الأولى التى خلقهم الله تعالى عليها (( حنفاء كلهم )) حيث لم يعد فى الرسالات السابقة قدرة على ربط أهل الأرض بربهم أو إيصالهم له
هنا قد يظهر لنا قائلان يقول أحدهما أننا نتحامل على الرسالات السابقة إذ نقول أنه لا أى منها يملك قوة جذب أو قدرة على تصحيح أوضاع البشر والآخر لا يقول وإنما يقرر أن الرسالات السابقة لا تملك ذلك وكلاهما خطأ وإنما الصحيح أن نقول أن الرسالات السابقة كانت لم تعد قادرة على جذب العباد إلى ربهم بعد ما حدث فيها من تحريف وما صاحبه من سيطرة الفاسدين من رجال الدين على مقدرات الناس وعقولهم وتصريفهم لدينهم تبعا لأهوائهم فإنه جاهلا وحده من يقول أن الرسالات السابقة عن الإسلام ليس لها قوة جذب بل هى لأنها رسالات سماوية لها قوة جذب مهولة جدا وإن لم تتساوى مع قوة جذب الإسلام وقد رأينا ما فعلته رسالة موسى عليه السلام بامرأة فرعون التى ضرب الله تعالى بها مثلا للمؤمنين والسحرة الذين ذكر الله تعالى من كلامهم ما يشابه كلام الأنبياء ومؤمن آل فرعون الذى أنزل الله تعالى فى كتابه سورة باسمه ( المؤمن ) وتكلم سبحانه فيها عنه كأنه نبى وأيضا نعلم أفواج المسيحيين الذين سيدخلون الإسلام عندما يستخرج المسيح عليه السلام الإنجيل غضا طريا كما أنزل من مدفنه حتى يروى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سبعين ألفا منهم سيغزون مدينة جانب منها فى البر وآخر فى البحر وهم يقولون لا إله إلا الله والله أكبر
أما عن عدم مساواة قوة جذب الرسالات السابقة لقوة جذب الإسلام فهذا كان هو مراد الله تعالى أن يرسل رسالة عامة لأهل الأرض كلهم يختم بها الرسالات السابقة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فقد كانت الرسالة الأخيرة فرصة أخيرة للبشر بعد أن مقتهم الله تعالى كلهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وهذا لا يقدح أبدا فى الرسالات السابقة فالثقب الذى يجذب مجرات الكون كله واحدة تلو الأخرى يجب ان تكون له قوة جذب تفوق كثيرا قوة جذب ذلك الذى يجذب كواكب مجرة واحدة
لكل ذلك فإن أهم آثار تلك الليلة عند الله تعالى هو كونه سبحانه وجد بين البشر كثيرا ممن دخلوا فى هذا الدين أفواجا فصار كأنه يقول لملائكته ( انظروا : لم يكن فسادهم من فساد خلقتهم وإنما من فساد بعضهم الذين أفسدوا فطرتهم وعقولهم فهاهم أولاء دخلوا فى دينى الإسلام سراعا بعد كثير شوق له وطول انتظار ) فقد كان الدين الجديد مطلبا بشريا بعد أن تاهت عقول البشر فى متاهات الفكر وظلمات الجهل كذلك كان مطلبا إلهيا من رب قال للسماوات والأرض والجبال (( دعونى وخلقى لو خلقتموهم لرحمتموهم )) مطلبا إلهيا لرب قال سبحانه (( إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنت تعملون إنه عليم بذات الصدور )) ( * الزمر 7 ) فهو سبحانه لم يرض لعباده ما هم فيه من كفر ورضى لهم سبحانه دينا عظيما أنزله على رسول كريم فى ليلة مباركة هى خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هى حتى مطلع الفجر