--------------------------------------------------------------------------------
ورغم وجوب استعمال الإنسان العقل في الوصول إلى الإيمان بالله تعالى فإنه لا يمكنه إدراك ما هو فوق حسه وفوق عقله ، وذلك لأن العقل الإنساني محدود ، ومحدودة قوته مهما سمت ونمت بحدود لا تتعداها ، ولذلك كان محدود الإدراك ، ومن هنا كان لا بد أن يقصر العقل دون إدراك ذات الله ، وأن يعجز عن إدراك حقيقته ، لأن الله وراء الكون والإنسان والحياة ، والعقل في الإنسان لا يدرك حقيقة ما وراء الإنسان ، ولذلك كان عاجزاً عن إدراك ذات الله . ولا يقال هنا : كيف آمن الإنسان بالله عقلاً مع أن عقله عاجز عن إدراك ذات الله ؟ لأن الإيمان إنما هو إيمان بوجود الله ووجوده مدرك من وجود مخلوقاته ، وهي الكون والإنسان والحياة . وهذه المخلوقات داخلة في حدود ما يدركه العقل ، فأدركها ، وأدرك من إدراكه إياها وجود خالق لها ، وهو الله تعالى . ولذلك كان الإيمان بوجود الله عقلياً وفي حدود العقل ، بخلاف إدراك ذات الله فإنه مستحيل ، لأن ذاته وراء الكون والإنسان والحياة ، فهو وراء العقل . والعقل لا يمكن أن يدرك حقيقة ما وراءه لقصوره عن هذا الإدراك . وهذا القصور نفسه يجب أن يكون من مقويات الإيمان ، وليس من عوامل الارتياب والشك فإنه لما كان إيماننا بالله آتياً عن طريق العقل كان إدراكنا لوجوده إدراكاً تاماً ، ولما كان شعورنا بوجوده تعالى مقروناً بالعقل كان شعورنا بوجوده شعوراً يقينياً ، وهذا كله يجعل عندنا إدراكاً تاماً وشعوراً يقينياً بجميع صفات الألوهية . وهذا من شأنه أن يقنعنا أننا لن نستطيع إدراك حقيقة ذات الله على شدة إيماننا به ، واننا يجب أن نسلم بما أخبرنا به مما قصر العقل عنه إدراكه أو الوصول إلى إدراكه ، وذلك للعجز الطبيعي عن أن يصل العقل الإنساني بمقاييسه النسبية المحدودة إلى إدراك ما فوقه . إذ يحتاج هذا الإدراك إلى مقاييس ليست نسبية وليست محدودة ، وهي مما لا يملكه الإنسان ولا يستطيع أن يملكه .
وأما ثبوت الحاجة إلى الرسل ، فهو أنه ثبت أن الإنسان مخلوق لله تعالى ، وأن التدين فطري في الإنسان ، لأنه غريزة من غرائزه ، فهو في فطرته يقدس خالقه ، وهذا التقديس هو العبادة ، وهي العلاقة بين الإنسان والخالق وهذه العلاقة إذا تركت دون نظام يؤدي تركها إلى اضطرابها وإلى عبادة غير الخالق ، فلا بد من تنظيم هذه العلاقة بنظام صحيح ، وهذا النظام لا يأتي من الإنسان لأنه لا يتأتى له إدراك حقيقة الخالق حتى يضع نظاماً بينه وبينه ، فلا بد أن يكون هذا النظام من الخالق . وبما أنه لا بد أن يبلغ الخالق هذا النظام للإنسان . لذلك كان لا بد من الرسل يبلغون الناس دين الله تعالى .
والدليل أيضاً على حاجة الناس إلى الرسل هو أن إشباع الإنسان لغرائزه وحاجاته العضوية أمر حتمي ، وهذا الإشباع إذا سار دون نظام يؤدي إلى الإشباع الخطأ أو الشاذ ويسبب شقاء الإنسان ، فلا بد من نظام ينظم غرائز الإنسان وحاجاته العضوية ، وهذا النظام لا يأتي من الإنسان ، لأن فهمه لتنظيم غرائز الإنسان وحاجاته العضوية عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا ترك ذلك له كان النظام عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض وأدى إلى شقاء الإنسان ، فلا بد أن يكون النظام من الله تعالى .
وأما ثبوت كون القرآن من عند الله ، فهو أن القرآن كتاب عربي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام . فهو إما أن يكون من العرب وإما أن يكون من محمد ، وإما أن يكون من الله تعالى . ولا يمكن أن يكون من غير واحد من هؤلاء الثلاثة ، لأنه عربي اللغة والأسلوب .
أما أنه من العرب فباطل لأنه تحداهم أن يأتوا بمثله ) قل فأتوا بعشر سور مثله ( ، ) قل فأتوا بسورة مثله ( وقد حاولوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عن ذلك . فهو إذن ليس من كلامهم ، لعجزهم عن الإتيان بمثله مع تحديه لهم ومحاولتهم الإتيان بمثله . وأما أنه من محمد فباطل ، لأن محمداً عربي من العرب ، ومهما سما العبقري فهو من البشر وواحد من مجتمعه وأمته ، وما دام العرب لم يأتوا بمثله فيصدق على محمد العربي أنه لا يأتي بمثله فهو ليس منه ، علاوة أن لمحمد عليه الصلاة والسلام أحاديث صحيحة وأخرى رويت عن طريق التواتر الذي يستحيل معه إلا الصدق ، وإذا قورن أي حديث بأي آية لا يوجد بينهما تشابه في الأسلوب وكان يتلو الآية المنزلة ويقول الحديث في وقت واحد ، وبينها اختلاف في الأسلوب ، وكلام الرجل مهما حاول أن ينوعه فإنه يتشابه في الأسلوب لأنه جزء منه . وبما أنه لا يوجد أي تشابه بين الحديث والآية في الأسلوب فلا يكون القرآن كلام محمد مطلقاً ، للاختلاف الواضح الصريح بينه وبين كلام محمد . على أن العرب وهم أعلم الناس بأساليب الكلام العربي لم يدع أحد منهم أنه كلام محمد أو أنه يشبه كلامه ، وكل ما ادعوه أنه يأتي به من غلام نصراني اسمه ( جبر ) ولذلك رد عليهم الله تعالى فقال : ) ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( .
وبما أنه ثبت أن القرآن ليس كلام العرب ، ولا كلام محمد ، فيكون كلام الله قطعاً ، ويكون معجزة لمن أتى به .
وبما أن محمداً هو الذي أتى بالقرآن ، وهو كلام الله وشريعته ، ولا يأتي بشريعة الله إلا الأنبياء والرسل ، فيكون محمد نبياً ورسولاً قطعاً بالدليل العقلي .
هذا دليل عقلي على الإيمان بالله وبرسالة محمد وبأن القرآن كلام الله .
وعلى ذلك كان الإيمان بالله آتياً عن طريق العقل ، ولا بد أن يكون هذا الإيمان عن طريق العقل . فكان بذلك الركيزة التي يقوم عليها الإيمان بالمغيبات كلها وبكل ما أخبرنا الله به . لأننا ما دمنا قد آمنا به تعالى وهو يتصف بصفات الألوهية يجب حتماً أن نؤمن بكل ما أخبر به سواء أدركه العقل أو كان من وراء العقل ، لأنه أخبرنا به الله تعالى . ومن هنا يجب الإيمان بالبعث والنشور والجنة والنار والحساب والعذاب ، وبالملائكة والجن والشياطين وغير ذلك ، مما جاء بالقرآن الكريم أو بحديث قطعي . وهذا الإيمان وإن كان عن طريق النقل والسمع لكنه في أصله إيمان عقلي ، لأن أصله ثبت بالعقل . ولذلك كان لا بد أن تكون العقيدة للمسلم مستندة إلى العقل أو إلى ما ثبت أصله عن طريق العقل . فالمسلم يجب أن يعتقد ما ثبت له عن طريق العقل أو طريق السمع اليقيني المقطوع به ، أي ما ثبت بالقرآن الكريم والحديث القطعي وهو المتواتر .......
وعلى ذلك وجب الإيمان بما قبل الحياة الدنيا وهو الله تعالى ، وبما بعدها وهو يوم القيامة . وبما أن أوامر الله هي صلة ما قبل الحياة بالحياة بالإضافة إلى صلة الخلق ، وأن المحاسبة عما عمل الإنسان في الحياة صلة ما بعد الحياة بالحياة بالإضافة إلى صلة البعث والنشور ، فإنه لا بد أن تكون لهذه الحياة صلة بما قبلها وما بعدها ، وأن تكون أحوال الإنسان فيها مقيدة بهذه الصلة ، فالإنسان إذن يجب أن يكون سائراً في الحياة وفق أنظمة الله ، وأن يعتقد انه يحاسبه يوم القيامة على أعماله في الحياة الدنيا .
وبهذا يكون قد وجد الفكر المستنير عما وراء الكون والحياة والإنسان ، ووجد الفكر المستنير أيضاً عما قبل الحياة وعما بعدها ، وأن لها صلة بما قبلها وما بعدها . وبهذا تكون العقدة الكبرى قد حلت جميعها بالعقيدة الإسلامية .
ومتى انتهى الإنسان من هذا الحل أمكنه أن ينتقل إلى الفكر عن الحياة الدنيا ، وإلى إيجاد المفاهيم الصادقة المنتجة عنها . وكان هذا الحل نفسه هو الأساس الذي يقوم عليه المبدأ الذي يتخذ طريقة للنهوض ، وهو الأساس الذي تقوم عليه حضارة هذا المبدأ ، وهو الأساس الذي تنبثق عنه أنظمته ، وهو الأساس الذي تقوم عليه دولته . ومن هنا كان الأساس الذي يقوم عليه الإسلام -– فكرة وطريقة - هو العقيدة الإسلامية .
) يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً ( .
أما وقد ثبت هذا وكان الإيمان به أمراً محتوماً كان لزاماً أن يؤمن كل مسلم بالشريعة الإسلامية كلها ، لأنها جاءت في القرآن الكريم ، وجاء بها الرسول r وإلا كان كافراً ولذلك كان إنكار الأحكام الشرعية بجملتها ، أو القطعية منها بتفصيلها ، كفراً ، سواء أكانت هذه الأحكام متصلة بالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو المطعومات ، فالكفر بآية ) وأقيموا الصلاة ( كالكفر بآية ) وأحل الله البيع وحرم الربا ( وكالكفر بآية ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( ، وكالكفر بآية ) حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ( الآية . ولا يتوقف الإيمان بالشريعة على العقل ، بل لا بد من التسليم المطلق بكل ما جاء من عند الله تعالى ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً .
ان كان هناك من استفسار من احد الاخوة فليتفضل و ساقوم بعون الله بالرد على استفساراتكم و اسالتكم.
و بارك الله فيكم و لكم و ارجوا من الله الافادة للجميع
|