بقية الموضوع
المسألة الثانية: نصوص يخالف ظاهرها ما استدل بظاهره الخوارج والمعتزلة..
النصوص السابقة التي استدل بها من يرون التكفير بالمعاصي وتخليد أصحابها في النار، وردت بإزائها نصوص أخرى كثيرة، تدل دلالة واضحة على أن كبائر الذنوب والمعاصي، لا تخرج مرتكبها من ملة الإسلام، ما عدا الشرك بالله..
( 1 ) نصوص من القرآن الكريم..
منها قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً )) [النساء (48)]..
فقد دلت الآية على أن كل ذنب غير الشرك، داخل في مشيئة الله..
فإن شاء غفره لصاحبه ابتداء وأدخله الجنة دون أن يعذبه عليه وإن لم يتب..
وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، بخلاف الشرك فإن الله لا يغفره لمن مات عليه..
وجه الدلالة على ذلك من الآية، هو العموم في لَفْظَيْ "ما" و"من" في قوله تعالى: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )) فما دون الشرك شامل لجميع المعاصي، ولمن يشاء شامل لكل مسلم ارتكب معصية دون الشرك ولم يتب منها..
ولما كان الخوارج والمعتزلة لا يفرقون بين الشرك وغيره من المعاصي، ويشترطون في مغفرة الله لمرتكبها التوبة، فقد حاول الزمخشري رحمه الله – عند تفسيره الآية ـ لَيَّ عنقها وصرفها عن ظاهرها الذي تدعمه النصوص الأخرى الآتي ذكرها، ليوافق تأويلُه مذهبَه [المُعْتَزِلِي]..
فقال:
"فإن قلت: قد ثبت أن الله عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة، فما وجه قول الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))؟
قلت:
الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً، موجهين إلى قوله تعالى: (( لمن يشاء )) كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك.. على أن المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب.." [الكشاف (1/551؛ 552)]..
وهو كما ترى تأويل متَكَلَّف ينزه عنه كلام الله تعالى، ويأباه فصحاء العرب، فإنه تعالى لو أراد هذا المعنى، وهو عدم التفريق بين الشرك وغيره من المعاصي، وأنه لا يغفرها جميعاً إلا بالتوبة، لبين ذلك بعبارة لا تحتاج إلى هذا التكلف في تأويل كلامه..
ولو كان المتكلم من البشر، وأراد هذا المعنى، لما عجز أن يقول: إن الله لا يغفر الشرك وغيره من الكبائر إلا بالتوبة، ولا يحتاج إلى التقييد بالمشيئة، ولكنه التعصب الذي يوقع صاحبه في مثل هذا التعسف العجيب..!!
ومن النصوص الدالة على عدم التكفير بكبائر الذنوب غير الشرك، قوله تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) [الحجرات: 9-10].
تدل الآيتان على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: وصف الله الطائفتين المقتتلتين أنهما من المؤمنين..
الوجه الثاني: جعل الطائفتين المتقاتلتين أخوين للمؤمنين، وهي أخوة دينية كما هو واضح..
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره:
"في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين..
قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو القدوة في قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين:
أمشركون هم؟
قال: لا، من الشرك فروا..
فقيل: أمنافقون؟
قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا..
قيل: له فما حالهم؟
قال: إخواننا بغوا علينا"..
[الجامع لأحكام القرآن: (16/323) ويراجع تفسير البغوي (4/213)]..
ونسب إلى الإمام مالك رحمه الله، القول بتكفير الخوارج الذين كفروا المسلمين، وبخاصة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، استدلالاً بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( أيما رجل قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما ) [صحيح البخاري (5/2264) رقم (5753) وصحيح مسلم(1/79) رقم (60)]..
قال الحافظ ابن حجر:
"وقيل: محمول على الخوارج، لأنهم يكفرون المؤمنين، هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف، لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم..
قلت:
ولِما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفر كثيراً من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل.." [فتح الباري (10/466)]..
وقال ابن كثير رحمه الله:
"(( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )) فسماهم مؤمنين مع الاقتتال..
وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم..
وهكذا ثبت في صحيح البخاري، من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى، ويقول: ( إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة"..[تفسير القرآن العظيم (4/212)]..
فقد أطلق صلى الله عليه وسلم على وصف الإسلام الطائفتين المقتتلتين (طائفتين عظيمتين من المسلمين)..
والمكفرون بالكبائر يسلبون هذا الوصف ممن ارتكب كبيرة..
فمن أحق بالاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بهذا الدين، أو غيره ممن أخذ من النصوص ما وافق هواه ونبذ منها ما خالفه؟!
وقال ابن تيمية رحمه الله:
"فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ))..
فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً مولاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.." [مجموع الفتاوى (3/284، 485)]..
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم، أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر.. وأن الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال، كغيره من الذنوب الكبائر التي دون الشرك.. وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة".. [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/801)]..
موقع الروضة الإسلامي..
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=start
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
|