هذا الذي يحدث !!!!!!!!!
7
كان ذلك في ليلة صيف مقمرة على شاطيء من شواطيء البحر الأبيض المتوسط...حينما وجدت زائرا يقتحم حياتي بدون إستئذان في الماء الذي كنت أسبح فيه ، في تلك الليلة المقمرة..
إنه قريب لي ، كان يعيش بيني وبين أخواتي كشقيق وحيد. وكانت طلباته كيفما كانت ملبية ومن جميع أفراد الأسرة... في تلك الليلة صار يطاردني بجسمه في مياه البحر ، على سطحه وعمقه.. ولم أستطع المقاومة فإنسكب علي كروال مطر يسيل على جدران بيت من زجاج ، و حينها وصلت إبنتاي ليشهدا ما شهدا.. و يا ليتني غرقت في ذلك الماء ولم أخرج منه حية..
لم أكن في سن النزوات والمخاطرات ، لكني لم أستطع أن أقوم وأفلت من بين ذراعيه..
عدت إلى حيث إقامة الأسرة وبكيت بكاءا مرا في الحمام حيث لا يراني أحدا ، وإعتزمت ألا أعود إلى هذا المكان مرة أخرى ...
لكن بعد أيام قليلة وجدت نفسي في نفس الموقف ودون مقاومة .. وكانت بناتي وراء هذا الحدث و كأنها مؤامرة أحيكت ضدي..
ولم تمر أيام حتى عادت الأسرة إلى البيت ، ولما أتاني ذلك الزائر طردته وإختلقت له مشكلة معه فإختلف وإياه فطرده ونهره وإشتد الخلاف بينهما لدرجة القطيعة....
ومن أجل حرصي على مستقبلي ومستقبل أطفالي صرت ألبي لهن كل شيء..فقد صارت تلك الصور والبحر وأنا وهو والأطفال والقارب المحطم تطاردني أينما حللت .. لم أعد أستطيع أن أرفض أي طلب لهن حتى وإن كان فيه ما يشين في المحيط الذي أعيش بينه. بل كنت أسدي لهن كيف يقنعن الآخرين بأن ذلك تحضرا وتتطورا ونوعا من الثقافة .. حتى لا يقعن مثل ما وقعت فيه رغم أنهن لا يشعرنني بشيء مما رأين إلا بنظرات تشعرني أن وراءها تهديد ووعيد إن لم ألبي الطلب..
صرت أمدهن بنصائح الغش والتمويه وهن اللاتي لم تتجاوز كبراهن الرابعة عشر من عمرها...
لم تمر أسابيعا ثلاثة على وفاته ، وكان البيت الذي أسكنه يعج بالأهل والأقارب والمعارف.. يقدمون العزاء والمواساة والمؤانسة حتى لا نشعر بفراغ فقدانه. بعدها لم يبق سوى أمه. .. أما شقيقه فكان يزورنا كل نهاية أسبوع حيث يتفقد أحوال الأسرة وإحتياجاتها.
رغم كراهيتي الشديدة له ، فهو رجل تقاليد وثقافة رأيتها قديمة لم تعد تتماشى مع العصر عصر الحريات..ولكن لحاجتي له لم أحاول إظهارها رغم إستفزازات بناتي وولدي له كلما يحضر لدينا علنا نبعث فيه شعورا ليوقف زيارته عنا.. فبناتي كن يتغيبن عن الحضور له لما يدخل البيت ولا يراهن ، وإن سأل أخلق له من المبررات والأعذار المقبولة لديه ، كأن أقول له إنهن يراجعن واجباتهن المدرسية أو يرتبن أمور الدور العلوي للبيت حيث لم يسعفنا النهار لزيارة طارئة من أحد الأقارب... فكان يهز رأسه ويرفع جبينه قليلا لينظر في عيني ثم يطأطئ رأسه وندخل في أحاديث أخرى...
لقد بدأت أضيق ذرعا من أمه ومن زياراته. وزاد ذلك من بناتي حيث كانت تلك العجوز تسأل عن كل طارق بنهار أو بليل أو حتى متكلم في الهاتف... فلم أجد حيلة للتخلص منها ... فالبيت بيتها وأنا لا أملك فيه شيئا... لكن كنت أشعر بأنها تقيد حريتنا...
كانت تستيقظ في الصباح الباكر ، وكنت أنا وبناتي لا نستطيع ذلك حيث كما نتسامر بعد أن تنام لساعات متأخرة من الليل نقضيها ما بين برامج التلفزيون والحديث عن شئوننا الخاصة..
وعن المستقبل والثراء والسعادة ...
وجاء اليوم الذي قررت فيه طردها من البيت وكان يوما شتويا عبوسا قمطريرا ، حيث الفصل شتاء والبرد قارس. طلبت مني الإفطار الصباحي فمددت لها عجينا من التمر كنت أحتفظ به في الثلاجة ، وما إن لمسته حتى ردته علي بحجة أنه بارد جدا وهي بحاجة إلى شيء دافيء تدفيء بها جسمها ... وكان ما كان ، حيث قلت لها لديك بناتك وإبنك فليمدوك بذلك...فأنا ليس عندي غير هذا ...
فخرجت ولم تعد منذ ذلك اليوم ولم أر وجهها إلا يوم وفاة إبني بعد عامين من وفاة أبيه وهي لم تعد تعرف أحدا...
لم أعلم أن إبنها الأكبر قد علم بذلك من الذين كنت أعتبرهم صناديق أسراري ومشدي أزري عند الشدائد و ضده..إلا أنه لم يحسسني بشيء من ذلك. فقد كانت زياراته مستمرة و بإنتظام و دقة ، سواء من حيث اليوم أو التوقيت حتى صرت أتوقع زيارته وأضبط عليها ساعتي.. حيث يحظر هو وزوجته فقط ، لأنه قليلا جدا ما يحظر إحدى بناته ، فيقضيا ساعات طويلة يتفقد فيها شئوننا والذي كنت دائما أصده بأنني لست محتاجة لشيء.. كان قلبي يقول إن حاجتي الوحيدة هي أن أفهمك أيها الصخرة الصماء ، أن أعرف نقاط ضعفك لأحولك إلى خاتم بين أصابعي....لكن كنت عاجزة تماما..عن فهمه رغم المواقف الكثيرة التي كنت أحاول حبكها مع بناتي لإستفزازه علني أدخل معه في خلاف وإشكالية تقطع عنا زياراته ، لكن كنت دائما حليفة بالفشل.
حتى في عيد الإضحى لما أخذنا معه لبيته الكبير حاولت إحدى بناتي من خلال شقيقها خلق مشكلة معه إلا أنه كان أكثر ذكاء ودهاءا.. فرغم سب إبني له وضربه وتمزيق ثيابه إلا أنه كان غير منفعل ولا مهتم لذلك... بل كان يعامله بمنتهى الهدوء والرحمة وإبتسامة عريضة كانت ترتسم على شفتيه تذكرني بإبتسامة شقيقه حينما يكون في حالة إنبساط...
وما كان مني إلا أن طلبت منه أن يعيدنا للبيت بحجة أنه عيد وقد يأتي أحد لزيارتنا بهذه المناسبة. ورغم شعوري بعدم الرضاء الذي إرتسم على وجهه إلا أنه إستجاب لي فور الإنتهاء من مراسم الأضحية .. فلم نقض حتى الساعات الثلاثة ببيته.. كل ذلك لأن بناتي وأنا نرغب في حريتنا ولا نرغب في الإستمرار في محيط الأسرة التي نشعر أنها تقيد حريتنا...
8
مرض أملي الوحيد، وقرر الأطباء أنه مرض عضال .. فسافرنا لعلاجه خارج البلاد.. وزادت معاناته وإشتدت أكثر مما كانت عليه. كان دائما يساعده في كل رحلة ويقدم له مظروفا مغلقا به مبلغا من المال أو توصية لأحد أصدقائه إكتشفت بعدها أنها توصيات للمساعدة إذا ما إحتاج لمصاريف تفوق ما عنده من مال ، فالمسألة ليست بسيطة وهذا إبن شقيقه ولا بد أن يقف بجانبه في هذه المحنة.. وهو الذي لا مثيل لشهامته ومروءته ..بعد زمن قال الأطباء إن صحة الطفل صارت جيدة ولن يحتاج إلا للرعاية والمحافظة حيث أن مناعته الطبيعية ضعيفة جدا..وكانت الفرحة ... لكن لم تدم طويلا حيث إنتكس الوليد مرة أخرى بعد أشهر .. فعدنا إلى ما كنا عليه ، كان الوحيد الذي غضب غضبا شديدا وصرح بأننا لا نستحق الأبوة والأمومة.. ولولا أنها قدرة الله... لقلت كلاما قد يخرجني عن الملة... عدنا للمعاناة والعلاج من جديد... ولم يدم العلاج طويلا حتى شفي الطفل ، لكن مات أبوه...
كان الفصل شتاءا والبرد قارسا . وليس لدي سيطرة عليه خاصة بعد غياب أبوه إلى الأبد وغرسي كراهية شديدة في نفسه لعمه، حيث لم يكن له أي تقدير أو إحترام ، بل كان يتعامل معه وكأنه لا يعرفه.. وهذا ما كنت أبثه في نفوس كل أفراد أسرتي...
كان كثيرا ما يخرج للعب مع أقرانه في الشارع ، وكان هو يمتعض عند زيارته لنا في نهاية كل أسبوع لما يجده خارج البيت.. كان يمتعض كثيرا وتبدو على وجهه واضحة علامات الإستياء والإمتعاض. لكنه كان لا يتكلم إلا بنصيحة أو ترشيد ومشاعر يحسها المتلقي جياشة ، لكني لم أكن أثق به..
ليتني لم أخسره. فلقد ناصبته العداء من أول لحظة .. وجاراني رغم ذلك ولم يحاول أن يجعلني ندا له وهو ما قهرني حتى إستبديت به... فقاطعني إلى غير رجعة... لم يدم فرحي كثيرا بحريتي بعد وفاته . فلقد إنتكس ولدي مرة أخرى وما كان منه إلا أن سافر به إلى نفس البلاد ونفس الطبيب حيث أنه أقرب الناس إليه..وإكتشف أن الولد عاد له نفس المرض العضال..فقرر إستمرار علاجه كما لو أن أبوه لم يمت. و كان له ما كان ... وإستخرج لي فتوة للسفر أثناء العدة لأكون بجوار ولدي أثناء علاجه ، لكنه لم يكن وحده بل جعل لنفسه رفيقا من الأسرة بإستمرار وهو صاحب رؤية و مروءة و شدة و بأس....وكأنه جعله ليكون شاهدا علي وعلى عالمي ..
كنت أرغب أن يكون وحده حتى أستطيع أن أقضي معه الوقت الطويل علني أستطيع إكتشاف الغموض الذي يحيط به و أعرف نقاط ضعفه..وهذه الهالة التي يديرها الناس حوله... فرغم السنوات الطويلة التي عشتها داخل الأسرة إلا أنني لم أستطع إكتشافه بالصورة الصحيحة والسليمة.. أفكاره ... إتجاهاته... طريقة تفكيره.. فالهيبة والوقار كانا يرتسمان على وجهه رسما ، رغم السنين وإشتعال وجهه ورأسه شيبا وهو لم يتجاوز العقد الخامس فيزيدان من وقاره وهيبته..
إنه يعتبر لدي الصندوق الذي عجزت عن فتحه وولوجه ، وهو الذي أحسب له ألف حساب وحساب ولم أفلح...
لظرف ما ، ولسبب ما ، لم أدرك كنهه غاب رفيقه أياما حيث عاد إلى أرض الوطن.. وبقي هو وحده .. وكنت أتوقع الكثير . فالشتاء فصل البحث عن الدفء .. لياليه الباردة القارسة تدفع كل شيء للبحث عن الدفء . لكنه كان أبيا ، قاسيا بقسوة ليالي ديسمبر.. صخرة من لحم ودم .....
كان يلتف برداء من الصوف الأسود ويجلس على كرسي في رواق المشفى الذي كنت في أحد طوابقه أنا وولدي ، من المساء إلى الصباح ، ومن الصباح إلى المساء. بين يديه كتاب صغير .. عرفت أنه مصحفا قرآنيا كان يقرؤه بإستمرار .
ما هذا ؟ ما هذا الصخر ؟ ما هذا الحجر ؟ لا يقترب من الغرفة التي أشغلها أنا ومرافقي إلا عند حضور الطبيب أو أحد من أهلي... عشرة أيام بلياليها .. لم أكتشف أنه كان يستكشف السر إلا بعد عام أو يزيد.. حيث كشف السر... وفتح الطلسم... فلم أجد بدا من مناصبته العداء ، فإدعيت أنه يتهمني بالمخدرات ويريد أن يأخذ أموالي وممتلكاتي من زوجي...ويشرد بناتي...
9
كانت تلك هي الرحلة الثالثة والأخيرة التي جمعتني به.. كان يوجه لي إنتقادات عن سلوك بناتي ، لم أعرف جديتها ومصداقيتها إلا بعد فوات الأوان... كان هاجس الخوف منه يدفعني بشدة لقطع الصلة به والبحث عن أي مدخل لخلق موقف ليحتد ويستبد النقاش بيني وبينه.. لكنه كان يجيد اللعب ، وعرف لعبتي وكشف مساربي. كشفني ولم يبق شيء لم يعرفه. عرف خيانتي وغدري ، وعرف أطروحاتي وألاعيبي أنا وبناتي .. عرف أموال أبيه التي دخلت لحسابي الخاص... وعرف حقوق أمه التي هضمتها وطردي لها من بيتها التي بنته بدم عروقها حينما إستفردت بها بعد وفاة إبنها فإستبديت بها وهي في إدبار العمر وفي أمس الحاجة للعناية والرعاية.... حيث تلقفها ولم يمر على موت زوجي الأسابيع الثلاثة ،فإحتضنها كأي إبن بار، وعرف كل ما تم من تزوير في عدة وثائق، من موته حتى موت إبنه وعبور الحدود الدولية به على أنه على قيد الحياة.....
كنت في كل مرة أتوقع أن يتفجر الموقف بيني وبينه.. لكنه أبى و تركني بهدوء مطلق بعد أن تعرت أمامه كل أسراري وتركني وكأنه لم يعرفني قط...
حاولت اللعب بالمحيط الأسري ... حاولت اللعب بأقرب الناس إليه.. حاولت اللعب معه ببناتي اللاتي يعتبر هو الأقرب لهن في هذا الكون... لكنه أبى و إستعصى... وكان شرطه واحدا الحياة ضمن مظلته على نهج الأسرة وإلا فلا... وكان موقفي لا حياة تحت مظلته ولا سير على نهجها..
ودارت الأيام والأسابيع والشهور والسنين... فوجدت نفسي وحيدة ، كليمة ، كالعنزة الجرباء في قطيع .. وحدي ، لا يعيرني أحد أي إعتبارا أو إهتماما... حتى أهلي نكروني فالكل عرف السر... بإستثناء قلة قليلة كانت لها مصالحها الخاصة ونواياها البذيئة التي لم أشعر بها إلا بعد فوات الأوان...
فات الأوان ولم يعد للعودة سبيل ... ضعت ... مثل بناتي ... وفقدت كل شيء حتى الذين كنت أعتبرهم صديقاتي ومشدي أزري ... و إكتشفت أني كنت دمية بينهم وبينهن... فقدت كل شيء... فلا جاه ولا مال ... بدون شرف...لأن الشرف أثمن من كل شيء ..فلا أثمن من الشرف والأمانة.. والشرف فقط . والأمانة فقط. واللذين إستلبا مني إستلابا وبمحض إرادتي .. فسلبتهم بنفسي عن نفسي من أجل لا شيء... غير التوه والضياع الذين لم أشعر بهما في حينهما.....
|