خواطر طالب جامعي ..... "فاشل"

[برحي]

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...

مقدمة :

هذا الموضوع هو ترجمة ما يجول في سراديب رأسي المظلمة من آهات و شكاوى و اعتراضات ....و غيرها مما سأحاول التنبيش عنه مستخدما مصباح "الكي بورد" -حيث لا توجد كهرباء في الداخل!-

هناك الكثير الكثير الذي أود أن أتكلم عنه، ولكن يمنعني الوقت -و الطول المسموح للرسالة الواحدة في المنتدى- من أن أسرد كل ما عندي. لذا سأستمر في الكتابة حتى أمل ثم أنهي الموضوع و كل يذهب في حاله.

أريد أن أتحدث عن معاناتي في الجامعة، و عن شعور المجتمع هذا اليوم نحو خريج الجامعة - و نحو المفصول من الجامعة!-. أريد أن أتكلم عن والدي و حرصه -الغريب!- على الشهادة الجامعية و لو بأي تخصص. هل فعلا لا توجد فرص لغير الجامعي؟.... هل حقا أن طالب الثانوية إذا اتجه للعمل بعد التخرج و ترك الجامعة فهو فاشل؟.... هل هي حقيقة أن الطالب الجامعي دائما ذو دخل أعلى من غير الجامعي ؟.... هل الحياة توقفت على الجامعة؟..... أحقا أن خريج الجامعة أو الحاصل على الدكتوراه يكون دائما شخصا فاضلا حكيما خيرا؟.... هل فعلا أن غير الجامعي أو تارك الجامعة شخص غير مسئول و جاهل و لا يعرف الالتزام؟

أسئلة كثيرة في رأسي تراودني ليل نهار و لا أستطيع التكلم عنها مع أحد - ستعرفون لماذا- إلا مع بعض الأصدقاء المقربين.
قد يستغرب البعض هذه المقدمة "الطويلة" و يقول "لماذا تضيع وقتنا و وقتك و لا تدخل في الموضوع مباشرة". و الحقيقة أن الموضوع سيكون طويلا جدا لذا أحببت أن أعطي نبذة مختصرة حتى يقرر القارئ إذا كان الموضوع يهمه أم لا.

نبدأ الموضوع ....

الجامعة.... و ما أدراك ما الجامعة -بالنسبة لي-..... هم على قلبي أقض مضجعي... أسهر الليالي و النهار لا نوم فيه..... و تراني أمشي أحيانا أهذي وحدي.... أمجنون أنا ؟.... ربما....

كنت في أيام المدرسة من المتفوقين. من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية. و دائما كنت من الأوائل و لله الحمد. ثم تخرجت من الثانوية بمعدل 97% و هو معدل جيد. و لكن خلال كل هذه السنين، كنت كثير الشكوى من الدراسة. كنت أكره الدراسة إلى حد الجنون!.... غريب أليس كذلك؟
.... متفوق و يكره الدراسة؟ ... نعم لا تستغرب فمثلي كثير.....

كنت أجلس مع والدي بالساعات -و أنا في المرحلة المتوسطة- و أناقش معه موضوع الدراسة و التعليم، أو بالأصح كنت أشتكي له من الدراسة و التعليم. كنت أستغرب من تعليق نجاح طالب قد يكون في المستقبل مهندسا ، على النجاح في الأدب !!!!! كنت أستغرب من حالي في المدرسة و أقول لماذا ؟ .... لماذا قصرت الحياة و علقت بالمدرسة؟ .... لماذا التعليم هو تعليم المدرسة و لا شيء غير ذلك ؟.... لماذا إذا رآك والدك تقرأ كتابا عن الغابات و الحيوانات مثلا، و أنت مستمتع بقراءته... ينهرك ، و يقول أترك هذا الكلام الفارغ و ذاكر دروسك !!!! -طبعا والدي لم يفعل هذا معي و لكن يحصل هذا- ..... لماذا إذا رأى منك أبواك اهتماما بالتجارة أو الملاحة أو أي مجال يعجبك، تجد منهم التحبيط و التثبيط، فقط "ذاكر دروسك و نم مبكرا للمدرسة" .... فيذهب البريق الذي ظهر في عينيك عندما وجدت شيئا تحبه .... و تنجرف مغلوبا على أمرك مع التيار الاجتماعي... ثم تكبر، و مع السنين تنسى ما كان عندك من مهارات أو إبداعات، لأنك لم تستخدمها. و كما قيل بالإفرنجي "If you Don't use it You lose it"

كيف صارت الحياة هكذا ؟ ..... منذ متى كان الناس كلهم طينة واحدة؟.... هل يعقل أن آلاف الطلاب كلهم على نفس الميول ؟ هل يعقل أن آلاف الطلاب إمكانياتهم واحدة ؟ هل يعقل أن آلاف الطلاب اهتماماتهم واحدة ؟

أصبحنا نسمع من الابتدائية كلمة متفوق و بليد .... إذا أخذ الطالب ممتاز فهو طالب جيد، و إذا حصل على مقبول أو ضعيف فهو فاشل.... و الأدهى و الأمر أن الطالب إذا حصل على درجة غير مقبولة تجد والده يؤنبه، أو يضربه و يحرمه.... و ما ذنب الولد ؟ ..... لست أدري ....

الأولاد ليسوا منتجات تخرج من مصنع كلها متشابهة... بل الأولاد بشر... كل طفل له شخصية مستقلة .... و كل طفل له مهارات خاصة يبرز فيها .... فلماذا هذا النظام الأجوف ؟ .... هل الحل هو أن ندخلهم في مكان نعلمهم فيه كل العلوم ؟.... كلها دفعة واحدة ؟.....عجبي...

إذا جئت للسمكة و هي صغيرة و قلت لها " أنتي ممنوعة من السباحة في البحر و عليك أن تخرجي إلى المزرعة و تساعدي في الحرث!" هل ستفلح السمكة في حرث الأرض ؟ طبعا لا ... لأنها لا تملك مقومات الحرث و الزراعة.... و لكنها مرغمة على البقاء في المزرعة شاءت أم أبت .... تريد الذهاب للبحر حتى تستمتع بالمياه ... و لكن هيهات، ممنوع و يجب عليها البقاء في المزرعة و العمل في الحرث.... و مع مرور السنين، تفشل السمكة -طبعا- في العمل في المزرعة و تطرد منها .... هل ستعود للبحر ؟؟؟ طبعا لا !! فقد نسيت السباحة بعد أن أكرهت على تركها و غصبها أهلها على مجال ليس بمجالها ... فأصبحت هذه السمكة تهيم على وجهها في الأرض تظن أنها فاشلة في الحياة لا دور لها .... هذا مثل الطفل الصغير الذي يغصبه أهله على المدرسة ... و يحرم من كل ما يميل إليه .... و عندما تمر السنين، و الولد من فشل إلى فشل .... ما يزال الأبوين يدفعانه نحو الهاوية ..... لماذا ؟؟؟ ..... ما زال الابن شابا، فلماذا لا توجهونه إلى مجال آخر ؟؟... مستحيل !!! إما المدرسة و إما ..... لا أحد يعرف ماذا بعد إما الثانية ....

نعود لقصتي مرة أخرى. بعد أن تخرجت من الثانوية، بدأ مسلسل الركض خلف القبول في الجامعة. و كطالب من الطلاب، أصبحت كغيري أقدم ملفي في كل مكان. و أتقدم لاختبارات القبول. و الحمد لله، قبلت في كلية الهندسة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.

و لكن !!!..... كيف هي الدراسة الجامعية ؟..... ما الفرق بين هندسة الحاسبات و علوم الحاسبات ؟ .....
ما هي طبيعة عمل المهندس إذا توظف ؟..... و ما هي طبيعة عمل خريج كلية الإدارة و الاقتصاد ؟ .....
هل أنا أصلح للهندسة ؟.... أم هل مستقبلي أفضل في كلية العلوم ؟؟...... ربما أكون أحسن حالا في كلية علوم البحار !!!! ......

أسئلة كثيرة و لم يكن عندي أجوبة لها حينذاك. كان يسألني والدي "ماذا تريد أن تتخصص في الجامعة؟؟"
فأقول له "لا أدري!!". و أنا فعلا لا أدري، ما عرفته طوال حياتي هو أنني أذاكر الرياضيات و الكيمياء و الفيزياء و الأحياء و اللغة العربية و اللغة الإنجليزية و باقي المقررات حتى أنجح آخر العام.

إثنى عشرة سنة لم يحدثني أحد فيها عن نوع الوظائف و لم أشاهد لا مهندسا و لا غيره. فكيف أعرف الذي أريده؟ من أين تهيأ للناس أن الطالب سيعرف المجال الذي يريده، وهو لا يدري ما المجالات المتوفرة أصلا ؟
أيعقل أن كل الطلاب يدخلون الهندسة ؟ أم كلهم أطباء ؟ .... هل المعدل العالي في الثانوية ، دليل على أن الطالب مناسب لمجال الطب ؟ أم أنه يصلح للهندسة ؟............. عجبي!

بدأ مشواري في الجامعة. و أصبحت أداوم يوما بعد يوم ، حتى جاءت الامتحانات . و كانت الصدمة، فليست درجاتي كما كانت في الثانوية. صحيح أنني نجحت في كل المواد و لله الحمد، و لكن الغريب أن الدرجات كانت فوق درجات النجاح بقليل، و ليست كما كنت في المدرسة "أقل من العلامة الكاملة بقليل". و بدأ مسلسل الإحباط.

مرت سنتان أو سنة و نصف. حصلي بعدها أن أصبت بمرض نفسي. أصبحت كثير البكاء، لدي خوف شديد، لا آكل و لا أشرب إلا قليلا. طبعا لم يكن سبب المرض من الإخفاق في الجامعة أبدا، بل كان من شيء آخر. المهم أنني أصبحت أتغيب عن الجامعة و لا أخبر أهلي. و مرت سنتان على هذا الحال، أو سنة و نصف. و لا أحد يعلم إلا الله أنني لا أداوم في الجامعة طوال هذه المدة. حتى أقرب أصدقائي مني لم أحد منهم شيئا. و بعد هذه المدة لم أعد أحتمل كتمان الأمر في نفسي. و خفت من أن تمر السنين و تكون الصدمة أشد على والدي. فذهبت لأبي – و كنا وقتها في شهر رمضان -- و شرحت له الموضوع كله من بدايته – أعني من بداية المرض النفسي- . فكان رد فعله طيبا و قال لي لا بأس عليك و لن أغضب منك أبدا فهذا خارج عن إرادتك. قلت له ما رأيك الآن أن أعمل ؟ قال " لا!... أبدا بل تعود للدراسة" . قلت له يا أبي بعد هذا كله كيف أعود للجامعة؟ ... قال " لا مستقبل لك إلا بالجامعة!". صارحت عندها أحد أصدقائي – و كان يدرس بكلية العلوم تخصص حاسبات- بالموضوع ، فأخذ يشجعني و قال لي لعلك لا تريد الهندسة؟ طبعا كان ردي " نعم لا أريدها" ... قال لي ما رأيك في علوم الحاسبات؟ قلت له " أنا أحب مجال الحاسب، و لكن هل يمكنني التحويل و قد نزل معدلي ؟" قال لي لا عليك، أنا سأحاول أن أسجل لك في الصيف مواد من كلية العلوم في تخصص الحاسبات حتى ترفع معدلك و في نفس الوقت لا تضيع وقتك في دراسة مواد الهندسة إذا كنت ستحول إلى العلوم. فقبلت بالأمر، و فعلا تمكنت من تسجيل مادتين من كلية العلوم، و بدأت الدراسة الصيفية. أتعرفون ما كانت النتيجة ؟ كانت درجاتي في المادة الأولى 100 من 100 و في الثانية 98 من 100 . فرحت كثيرا و فرح والدي. و استمتعت بالدراسة في ذلك الفصل. و قلت أحول بعد بداية السنة الجديدة. و لكن للأسف، ما زال معدلي لا يسمح لي بالتغيير. غريبة؟؟ و هل يحتاج الطالب المتفوق أن يحول من كليته ؟ من الطبيعي أن الذي يريد أن يحول هو الطالب الذي لم يفلح في كليته الحالية. عجبا للنظام الغريب.
حاولنا أنا و صديقي أن نقوم بمثل ما عملناه في الصيف و أن نضيف مواد من كلية الحاسب. و لكن هيهات، رفض مسجل المواد هذه المرة ، و خاف على نفسه مني . قال لي "إذا فشلت في المواد فسوف تشتكي علي!" حاولت إقناعه بأني أتحمل كامل المسؤولية عن قراري هذا. لأني وجدت نفسي في تلك الكلية أفضل حالا من الهندسة. و لكن ماذا أفعل؟ رفض أن يسجل المواد، و بقيت أنا في كلية الهندسة و أصبح ذلك الفصل الصيفي مجرد حلم جميل و انتهى.

مر الفصل الدراسي. و رسبت في مادتين، و معدلي لم ينخفض و لم يرتفع. و أنا الآن في الفصل الثاني من نفس السنة. و الإحباط قد وصل ذروته. و يبدو أنني لن أنجح في أي مادة .... فرغبتي في الدراسة قد ماتت.

حسنا..... لماذا أنا باق في الجامعة إذا؟ لماذا أضيع وقتي إذا كنت لا أريد أن أدرس ؟؟ أليس الأفضل أن أبحث عن عمل ؟ .... لا أستطيع ذلك.... السبب الوحيد الذي يجعلني لا أترك الجامعة نهائيا ، هو أبي و أمي .... و خصوصا أبي .... أذكر مرة في أول سنين الجامعة قالت لي أمي "عقبال ما نشوفك دكتور" فقلت لها إنسي الدكتوراه ، حدي أن أحصل على البكالوريوس –هل كتبتها صح؟- و فقط. و كان أبي حاضرا هذا الحوار، فرأيت الغم و النكد في وجهه!.... قلت له ما بك ؟ قال لي لماذا لا تريد الدكتوراه ؟ قلت لا أريد لا رغبة عندي يكفيني التخرج و العمل.... فغضب و تعكر مزاجه !!! لماذا يا أبي ؟؟ لماذا هذه الرغبة الشديدة في الجامعة ؟؟؟
لماذا تضعني في موقف محرج ؟؟ لماذا تصعب علي حياتي ؟؟؟ أستطيع النجاح في مجالات أخرى ، فلماذا تكبلني بالجامعة ؟؟؟ لا أريد الجامعة !!! لا رغبة عندي أبدا بالدراسة !!! هذا قراري و لست نادما عليه!!

هل حقا لا بد من الجامعة ؟؟ يا ناس !! يا بشر !! هل توقفت الحياة على الجامعة ؟؟
لا ... لا ... و ألف لا أقولها لهذا المبدأ .... هناك أدلة و أمثلة كثيرة تنفي هذه الفكرة .... أعرف شابا معه شهادة الثانوية. عمل بإحدى الشركات موظفا بسيطا. ثم أصبح بعد ذلك مدير فروعها في المنطقة الغربية. أليس هذا نجاحا ؟ هل تنفي ما قام لأنه لا شهادة جامعية عنده ؟؟؟ مستحيل .

قد يكون الغالب عند الناس أن الذي يخفق في الجامعة إنما أخفق لأنه "لعاب" و لأنه طائش و عديم المسئولية.
و هذا قد يكون صحيحا ، و لكن لماذا نعمم؟ لماذا ننكر و نرفض أن الطالب قد تكون له مهارات في مجالات أخرى ؟ لماذا الجامعة أو الهاوية ؟؟


لست أدري