الباب الأول :
عبد الناصر يكرهني شخصيا !
في مساء يوم من أيام الشتاء، وفى أوائل شهر فبراير عام 1964 م كنت عائدة إلى بيتي، حين انقلبت بي عربتي إثر اصطدامها بعربة أخرى، كانت الصدمة قاسية فذهبت في شبه إغماءة، كانت الآلام الشديدة توقظني منها. ولم أتبين من كل ما حدث حولي إلا صوت إنسان ينادى اسمى في فزع ، وغبت عن الوعي، وحين تنبهت وجدت نفسي في مستشفى هليوبوليس وبجانبي زوجي وأشقائي وشقيقاتي وبعض زملائي في الدعوة وزميلاتي . كان الكل في فزع وألم شديدين تحكيهما تعبيرات الوجوه التي تصفحتها وأنا أفتح عيني لأول مرة وشفتاي تتمتمان "الحمد لله . . الحمد لله ، وكأني بالتمتمة أسألهم عما حدث ؟ إلا أنني ما لبثت أن غبت ثانية عن الوعي، ولم أتنبه إلا بدخول إحدى الحكيمات بالمستشفى مع ممرضين وممرضتين لحملي إلى حجرة الأشعة . وتذكرت ما حدث وسمعت زوجي يقول : الحمد لله سلمها الله ، احمدي الله يا حاجة . وسألت عن سائق عربتي فعلمت أنه –بحمد الله – بخير، وأنه يعالج في المستشفى، وعلمت فيما بعد أنه أصيب بارتجاج في المخ . وحملت إلى غرفة الأشعة، ولما تبين وجود كسر في عظمة الفخذ، وضع ساقي في قفص حديدي وتقرر إجراء عملية جراحية. ونقلت إلى مستشفى مظهر عاشور ليجريها لي جراح العظام الدكتور محمد عبد الله ، واستغرق إجراء العملية -تعاد بعد التحضير والتخدير- ثلاث ساعات ونصف الساعة . . عشت بعدها فترة، ونذر الخطر تحيط بي . ثم زالت أيام الخطر وبدأت ألتقط ما يقال وما ينقل ، مما يوضح أن الحادث كان مدبرا من مخابرات جمال عبد الناصر لاغتيالي، وتواترت الأخبار تؤكد ذلك . وكان لفيف من الشباب المسلم يزورني يوميا للاطمئنان ، وعلى رأسهم الأخ الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل . فلما بلغتني تلك الأخبار، طلبت منه أن يقلل الشباب من زيارتي . وكان رده أنه قد حاول هذا فعلا، ولكنهم رفضوا وأصروا على زيارتي . . وفى أحد الأيام التالية دخل السكرتير الإداري لجماعة السيدات المسلمات وبيده ملف أوراق ، يعرضها على بصفتي رئيسة الجماعة، وكان في الغرفة زوجي والسيدة حرم الأستاذ الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين ، ورأيت زوجي يسرع إلى السكرتير قبل أن تتاح له فرصة تقديم الملف لي فيأخذه منه ويخرج معه من الحجرة، وهو يحدثه حديثا فهمت منه أنه نهاه مرة قبل ذلك عن تقديم هذه الأوراق لي، ودهشت لذلك وسألت زوجي عن السبب فتعلل بأنني محتاجة إلى موافقة الدكتور عبد الله المشرف على علاجي . وذهب زوجي إلى الدكتور الذي ما لبث أن جاء ليكشف على ساقي وليحرم على القيام بأي عمل ، ليؤكد لي أنه منع دخول الأوراق أو وصول الأخبار عن الجمعية إلى . ولما احتججت بأن الأمر بسيط لن يتعدى التوقيعات أصر على موقفه . ومضت أيام رجوت الطبيب بعدها السماح بمزاولة بعض أعمال الجماعة من فراشي فرفض ، وازددت يقينا بان هناك شيئا ما، يتعمد الجميع إخفاءه عنى :
زوجي والسكرتير والزائرون ، بل حتى سكرتيرة مجلس إدارة جماعة السيدات المسلمات التي كانت تزورني دائما، وكنت أحس من إجابتها المقتضبة على أسئلتي عن الجماعة بأنها تخفى عنى شيئا. وجاءتني السكرتيرة في أمسية استجمعت فيها شجاعتها لتنقل إلى ما أخفوه عنى . كان الأمر خطيرا على ما بدا من موقف زوجي ا! بشجاعتي والمشجع على الصبر والاحتمال وقوة الإرادة . وأخذت الأوراق السيدة فإذا هي قرار "بحل المركز العام لجماعة السيدات المسلمات "، وأخذت السكرتيرة تتحدث إلى قائلة : "طبعا يا حاجة الأمر شديد بالنسبة إليك " . قلت "الحمد لله ، ولكن ليس من حق الحكومة أن تحل الجماعة، إنها جماعه إسلامية" أجابتني : "لا أحد يقدر أن يقول للحكومة هذا، لقد بذلنا مجهود كبيرا جدا، ولكن عبد الناصر مصر على حل الجماعة، هو يكرهك شخصيا حاجة زينب ! !
لا يطيق أن يسمع اسمك على لسان أي إنسان . عندما يذكر اسمك يثور ويغضب وينهى المقابلة!
قلت : "الحمد لله الذي جعله يخافني ويبغضني، وأنا أبغضه لوجه الله ولن يزيدنا طغيانه ، نحن معاشر المجاهدين ، إلا إصرارا على أن نرضي ضمائرنا ونعيش لدعوتنا ، إنها دعوة التوحيد وسننتصر بإذن الله ، وأرخص ما نبذله لها أن نستشهد في سبيلها". "ليس لعبد الناصر الحق في أن يحل جماعة السيدات المسلمات .
إن الله تبارك وتعالى هو الذي يعقد للمسلمين راياتهم ، والذي يعقده الله لا البشر". قالت والدموع في عينيها : "يا حاجة . . المسألة خطيرة، ونرجو الله أن لا تنتهي بحل الجماعة، ربما كانت كلماتك هذه تسجل ، أو أنها قد سجلت فعلا ربما كان هنا جهاز تسجيل " . واستمرت تسر إلى : "يا حاجة : أنا أطلب منك شيئا صغيرا وهو التوقيع على هذه الورقة، فإذا وقعتها سيلغى قرار الحل " . فسألتها أن تطلعني على الورقة فإذا هي استمارة انتساب للاتحاد الاشتراكي، فقلت لها : "لا والله ، شلت يدي إذا وقعت يوما على ما يدينني أمام الله بأنني اعترفت بحكم الطاغوت جمال عبد الناصر الذي قتل عبد القادر عوده وزملاءه . إن الذين غمسوا أيديهم في دم الموحدين خصوم لله وللمؤمنين . الأشرف لنا أن يحل المركز العام للسيدات المسلمات " . قبلت رأسي وهى تبكى وتقول : - أتثقين بأنني ابنتك ؟ قلت : نعم . . قالت : فاتركي هذا الموضوع . . قلت : سنترك الأمر، ولن أوقع هذه الورقة . إن فيها ولاء للطاغية، وهذا أمر مستحيل إتيانه ، والله يفعل ما يختاره لعباده . ومرت أيام المستشفى وتقرر خروجي مع استمرار العلاج .
يتبع لاحقا
