الحمد لله الذي يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور.
والصلاة والسلام على النور المبين، خاتم النبيين.
وعلى آله أهل الدين والملة، وأزواجه أهل التقوى والعفة، وأصحابه أهل السيف والقلم، وعلى أتباعه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
فبعدما وصلت إليه مداخلة (المخالف) من الطعن في الدين بادعاء استمرار حل ما حرّم الله.
والاجتزاء في النقل عن أئمة التفسير، بنقل ما يؤيد مخالفته من (القرطبي) وإغفاله ما يبين مخالفته في تفسير القرطبي نفسه.
والانتقاء في ذكر أخبار التاريخ بلا تحقيق ولا خضوع لقواعد النقد التي تميز بين الغث والسمين، والصحيح والفاسد، كما في إصراره على ما ذكره عن الزبير ابن العوام وأسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهم أجمعين) واستشهاده بمراجع تتضمن ما يخالف أقواله في هذه المسألة وغيرها، غير أنه اقتطع منها ما يؤيده وأبطن ما يعارضه.
وتكذيبه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) انتصاراً لأقوال مشايخه (آيات الله)، بتكذيب صحيح الورود قطعي الدلالة عنه (رضي الله عنه)، مع إيمانه في مواضع أخرى بعصمته وصدق أقواله وأفعاله.
وطعنه في أمير المؤمنين، الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) واتهامه في نيته وعمله وأمانته في نقل الأحكام وتبيانها عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
أرى في كل ما تقدم مصاديق قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وأرى أن النقاش في هذه المسألة لم يعد يجدي لخروج (المخالف) عن آداب وقواعد الحوار في الإسلام عامة، وما اتفقنا عليه في حوار هذه الخيمة الإسلامية على وجه الخصوص.
وأرى إغلاق باب المداخلات بعدما تم إيراد أدلة الطرفين، وأصبحت المداخلات تعليق على التعليق، وحاشية على الحاشية، لا جديد فيها. مع تنويهي بمداخلة الأخوات اللواتي يضيرهن ويؤذيهن أن يتم الكلام عن المرأة وكأنها (شيئ) يباع ويشرى، ويستأجر ويرهن، ويستخدم عند الحاجة ثم يرمى بلا مبالاة بعد انتهاء النُهمة، ومقابل ثمن بخس تُنتهك إنسانيتها وتُدمر سمعتها وتُعامل كسقط المتاع. ولمن يهمه معرفة معاناة المرأة الإيرانية بسبب المتعة وآثارها السلبية أنصح بقراءة
(د. شهلا الحائري، المتعة: الزواج المؤقت عند الشيعة، حالة إيران 1978-1982م، ترجمة: فادي حمود، بيروت، ط4، 1997م) ففيه شهادات حية. ود. شهلا حفيدة أحد علماء الإمامية المشهورين المعاصرين. فهي تتحدث من داخل المجتمع الإيراني لا من خارجه.
وحتى لا ننخدع أقول للذين يؤمنون بالكتاب كله، وبالوحي كله:
- إن قواعد الإسلام تنهى عن اجتزاء الأحكام الشرعية، وتفصيلها بحسب الهوى، وفي الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {أفتؤمنون بعض الكتاب وتكفرون ببعض}؟ [البقرة/85]، قاله تعالى في معرض ذم بني إسرائيل الذين يظهرون من الأقوال والدلائل والفتاوى ما يناسب مصالحهم لا ما جاء به الشرع.
وهم - والشيء بالشيء يذكر - أول من أباح المتعة في عصرهم، حسبما ذكر (التلمود) وبها استباح الحاخامات نساء بني إسرائيل، حتى قالوا: (إن المرأة التي تنذر نفسها لأحد الراباي (رجال الدين) أو لسيد من نسل داود لها أجر كبير).
وأترك للقارئ الكريم أن يقارن بين ما قاله اليهود وما يقوله البعض اليوم ممن يدعي الانتصار لدين محمد (صلى الله عليه وسلم).
- والإيمان بالكتاب كله يعني عدم تقطيع أوصال الأدلة الشرعية، ثم جمعها في نسق يؤدي إلى الفهم الخاطئ الذي يتم التلبيس به على العامة، واستغلال الجهلة، والارتزاق بما حرم الله، بعد إيهام النفس بأن ما يفعل ويقال من الحرام له أصل شرعي.
- والإيمان بالكتاب كله يؤدي إلى منهجية متبعة في تتبع الدليل وجمعه وتمييز العام من الخاص، والناسخ من المنسوخ، والمتقدم من المتأخر، حتى يفهم الطالب والعالم والمجتهد الدليل وغاياته ومقاصد الشريعة من وراء النص، فلا يقع في حيرة بني إسرائيل التي أدت بهم إلى دين جديد لا علاقة له بالتوراة ولا موسى (عليه السلام).
وأترك للقارئ كذلك أن يقارنهم بأصحاب الأهواء المعاصرين الذين لا يفرقون بين ما أبيح وما حرم، ولا بين دليل التحريم ولا دليل الإباحة، ولا يفقهون متى تكون صيغة الأمر للوجوب ومتى تكون للندب والتخيير، ومتى يكون الجمع بين الأدلة توفيقاً، ومتى يكون تلفيقاً.
- والإيمان بالكتاب كله يؤدي إلى احترام السلف الذين لم يغفلوا ذكر أدلة خصومهم، ولم يستشهدوا بها على أنها تنصر مذهبهم، بل تراهم يوردون ما يؤيد مذهبهم وما يعارضه، ويبينون ذلك، التزاماً منهم بمنهجية الإسلام في الصدق بالنقل والعدل في القول، وثقة منهم بصحة ما وصلهم من الكتاب والسنة وعمل الصحابة (رضي الله عنهم) مما أقرهم عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وهو ما فعله الإمام القرطبي في تفسيره - وفعله غيره من المفسرين - حيث أورد أقوال الأئمة والسلف في تفسير الآية، ما يؤيد مذهبه وما يعارضه.
وما استشهد به المخالف إنما اقتطعه من سياقه، فالقرطبي لا يبيح المتعة، ولا يقول بحليتها، ولا يعتقد أن التحريم كان من عند غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واعتقاده هذا هو اعتقاد جمهور العلماء من السنة والزيدية والإباضية والظاهرية ولم يجاهر بها سوى متأخري الإمامية، واشتدت دعوتهم إليها بعد الثورة الإيرانية ومواجهتهم لواقع انتشار الزنا المأجور من تركة الشاه المقبور، فأرادوا مخرجاً لذلك، وفتوى الإمام الخميني في أن الزانية التي تتوب تكتمل توبتها إن هي متعت أحد المحاربين أو حراس الثورة مشهور ومعلوم، وهو حل يوافق حاجات وعادات وتقاليد المجتمع الفارسي الذي أباح فيه فلاسفة ما قبل الإسلام تكريم الضيف بتقديم الزوجة، والزرادشتيون يعرفون نكاح الاستبضاع ويمارسونه. بينما تعاف نفوس العرب وغيرهم من المجتمعات مثل هذه الممارسة ولا يرون فيها شيئاً من المروءة، وإنني أتحدى أن يذكر أحد من مبيحي المتعة أنها تمارس في بنات (آيات الله) ونساء بني هاشم من (السادة) لأنها لا تليق بالحرة ولا الشريفة.
- والإيمان بالكتاب كله يؤدي بالفرد والجماعة إلى نظرة شمولية للمسائل، فلا يفصلون الفقه عن الحياة، ولا يفصلون المقدمات عن نتائجها، ولا يتطرفون فيجمعون من روايات الواقع ما يؤيد مذهبهم دون غيره.
وما جاء من لجوء بعض السلفية إلى فهم قواعد (المتعة) من (المخالف) يوم كان في أمريكا يقابله عشرات الروايات المثبتة في كتب الإحصاءات والدراسات الاجتماعية والنفسية، ومئات الروايات الشفهية عن المآسي التي تترتب على ممارسة (المتعة) من النظرة الدونية للمرأة التي تمارسها، ومن استغلالها، وأكل حقوقها، وتحويل قطاع من نساء المجتمع - الذي يبيح هذه الممارسة الجاهلية - إلى الإمتهان، وفي (مشهد) و(قم) - على وجه التحديد - تحول ترتيب المتعة إلى تجارة يرتزق منها عصابات عمل مقابل امتهان لإنسانية المرأة.
ومن الواضح أن مبرر المتعة فتح متنفساً - من الباب الخلفي - لمن امتهنت البغاء قبل الثورة - باسم الدين. ولا يستغربن أحد أن يكون القائم على مثل هذه التجارة رجل معمم ينشر بين الناس كل الخرافات التي قامت حول ثواب من يمارس (المتعة) نكاية فيمن حرمها (أي عمر رضي الله عنه). وأن ذنوبه تتساقط مع قطرات ماء الغسل بعد ممارسته (سبحانه وتعالى عما يفترون).
- والإيمان بالكتاب كله يعني أن يكون المتكلم وقّافاً عند حدود الله، فلا يعشق الشبهات، ولا يتبع الشاذ من الأقوال والفتاوى، ولا يخوض في المتشابه بعدما سمع قوله تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلمه تأويله إلا الله} ويؤمن بما بعدها مباشرة من قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌ من عند ربنا} [آل عمران/7].
- والإيمان بالكتاب كله يعني الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأفعاله وأقواله وتزكيته لإخوانه وأصحابه، وإحسان الظن بهم، وتحاشي الطعن عليهم لأنه طعن على الرسالة التي آمنوا بها، والنبي الذي نصروه وعزروه ووقّروه، وهم أمناء الوحي بعد انتقال النبي (صلى الله عليه وسلم) للرفيق الأعلى. إلا أن يكون هدف الطعن عليهم الطعن على أصل الرسالة ونبوة محمد (صلى الله عليه وسلم).
وأترك للقارئ أن يقارن بين موقف الطاعنين وموقف الإسرائيليين الذين قالوا: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران/72]، ولأن الطعن في محمد (صلى الله عليه وسلم) ورسالته غير مجد لما فيها من الحق، ولكن إثارة الشبهات يؤثر في قلوب العامة والرعاع. والبشر معرضون للخطأ والصواب ويمكن للمتتبع جمع سقطاتهم وأخطائهم، والطعن فيمن حول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيسر لإبليس وإخوانه من الإنس والجن.
- والإيمان بالكتاب كله يعني أن يحترم الإنسان نفسه فيعرف حجمه في العلم ومقداره، فيسأل إن كان جاهلاً، ويتوسع إن كان طالباً، ويجتهد في البحث إن كان صادقاً. ويحاور من يعتقده أهلاً للحوار والمناظرة، لأن الطعن بالضعيف لا يعني شيئاً في قاموس المروءة.
أما أن يطعن في غيره ويتهمه بالهرب من الحوار لأنه – كما يقول (المخالف) - جاهل لا يملك الدليل، فحجة الذين لا حجة لهم، وقديماً قال الإمام الأموي الأندلسي جواباً على رسالة شتائم وصلته من المهدي الفاطمي المدعي صاحب أفريقيا: (عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك).
· - والإيمان بالكتاب كله يعني أن ينظر المسلم إلى الأمّة المسلمة كلها على صعيد واحد، فلا يكره لنفسه ما يحبه لغيره، ولا يحب لها ما يكرهه لغيره، وفي تأديب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للذي جاءه يستأذنه في الزنى لأنه لا يصبر على شهوة النساء، قال: (أترضاه لأمك)؟ قال: لا. قال: (والناس لا يرضونه لأمهاتهم). وذكر له: الأخت والزوجة والبنت، وكان جوابه على كل سؤال (لا). وهكذا هي الفطرة التي لم يضربها عمى الهوى والعصبية، ولم تصبها آفة استباحة النساء واستغلال حاجتهن وإعانة الشيطان عليهن.
- والإيمان بالكتاب كله يعني أن ننظر إلى تاريخنا وواقعنا ومستقبلنا بمنظار الرسالة لا بمنظار الانتصار للنفس أو للمذهب أو للشيخ المتبع، وأظن أن التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي تستحق منا وقف جادة أعمق من تكرار ما تم استهلاكه ولوكه في تفتيت الصف وتفريق الكلمة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
|