لزومية الملك الضرير - بقلم : إدوارد فرنسيس
الجزء الثانى
و الملاحظ ان القصيدة تبدأ باستفهام ( مالي ) .. و هذا الاستفهام يرتبط بأفعال خاصة تعود على أبي العلاء . الفعل الأول : غدوت – أى أصبحت ، و أبكرت فيما أ صبحت عليه ، و هذا الفعل
يرتبط بأرجوزة ( رؤبة بن العجاج ) التي قُيدت في الماضي ، لكن هذا الفعل لم يقف عند
هذا المستوى ( الماضي ) ، بل إنطلق الي المستقبل حيث الغد .
و الفعل الثاني : اُعللتُ – و هو من عل الانسان علة: مرض فهو معلول، و علة أبو العلاء المعري في لزومه داره، و في فقده لنظره و في شؤمه ا يضاً حيث يقول :
أراني في الثلاثة من سجوني == فلا تســـأل عن الخــبر النبيث
لفقـدي ناظـري ولـزوم بيـتي == وكون النفس في الجسم الخبيث
و كل هذه السجون أو العلل مرتبطة بالفعل ( قال ) الأجوف الوسط ، و الذى حار فيه أطبة الصرف ، فهل عينه أصلها الواو أو الياء .
أما علة أبو العلاء فهي قديمة قِدَم علة ( قال) السابقة ، و لأن علته هذه قديمة فهو أصبح مقيداً
تماماً كأرجوزة ( رؤبة بن العجاج ) المقيدة الآخر ( الساكنة ) ا لتي يقول فيها :
وقاتم الاعماق خاو المخترقْ == مشتبه الأعلام لماع الخفقْ
يكل وفد الريح == من حيث انخرقْ
و الفعل ا لثالث : شعرت - وهو من شعر، يشعر أ و يستشعر، و كل هذا يجيء من المعاشرة
للقوم ، و هذا الفعل غير خاص بأبي العلاء فقط ، لأن الشعورعام ، لكن ما شعر به أبو العلاء خاص .
و الفعل ا لرا بع : وجدت – و هو من الوجود .. و هو يتصل مباشرة بالانسان و أحوا ل الدنيا،
و ما بها من حسن ظاهر و قبح ضامر .
و الفعل هنا مرتبط بالدنيا التي يشبهها أبو العلاء بحسناء في ثوب زفافها لكنها طامث فهي دنسة.
فكل الأفعال السابقة تتصل بأبي العلاء مباشرة ، لكن يبقى إستفهامه الذي يربطها في عقد واحد
تتسلسل حباته و لا تنقطع ، لأن أبا العلاء إ رتضى لنفسه معاشرة القوم .
فهناك فعل آخر يخدم الأفعال الأربعة السابقة إذ يقول أبو العلاء :
مُلَ المقام فكم أعاشر أمَّةً == أمرت بغير صلاحها أُمراؤُها
و المقصود هنا الفعل ( أعاشر ) و هو من إعتشر ا لقوم أى تخالطوا أو تصاحبوا ، فهو يوحي باستمرار المعاشرة .
و هناك أيضاً مستوى خاص من الأفعال : و هذه الأفعال ناقلة للرسالة ، أ لح عليها أبو العلاء ،
و معظم هذه الأفعال إما منفية أو ( منكسرة ) :
لم يقدر – أعيا ، من الإعياء – تستبد من الإستبداد – فترت ، من الفتور – لم تفتر – مُلَّ ، من الملل – أمرت بغير صلاحها – لا تقتني – عدوا مصالحها – لا تستقم – راح .
و هناك إ رتباط بين الأفعال الخاصة بأبي العلاء و الأفعال الخادمة لها ، و الأفعال الناقلة للرسالة ،
ففي الأربعة أ بيات الأولى نلاحظ ( الغدو ) و إرتباطه بقصيدة « رؤبة » الساكنة ... المقيدة ،
و هذا ما جعل أبو العلاء يشعر من قبل بعلته القديمة ا لتي تشبه الي حد ما علة ( قال ) ،
و هذه العلة أيضاً جعلته قعيد ، ( طا ل الثواء ) حيث إعترض جسده ( صحراؤه ) علي ضم مفاصله
التي ضعفت من جَرَّاء جلوسه و قعوده . و حتي ينقلنا أبو العلاء الي الأبيات التالية ، يذكر أن مفاصله لم تفتر فقط من جَرَّاء القعود ، بل فترت من الأحداث الجسام التي تحملها ، و كذلك من الهموم الكبيرة و الكثيرة التي يبيت فيها .
و في الأربعة أبيات التالية ، إعتراض صريح و واضح ضد أمراء البلاد الذين أ فسدوا الحكم ،
و ظلموا الرعية و سلبوهم حقوقهم و تركوا مصالحهم – و الأجدر أن يحافظوا علي هذه المصالح –
بل مما زاد الداء علة ، أن هؤلاء الأمراء أشاعوا الفساد في الأرض ، و لم يستطع أن يقترب منهم
إلا الشعراء المنافـقـين المداحين .. و كذلك فهم زعموا أنهم أغنياء و كرماء ، لكنهم أجادوا حبس
ثرائهم ، فهم يمـتـلكون الكثير و يضـنون بالقليل علي شعبهم .
و ينتقل بنا أبو العلاء بعد ذلك الي صورة أخري ليعرض لنا مدى التشابه بين فساد الأمراء في تلك
الأمة والنفس المتقلبة فيقول .. مهما تجاوزت نفوس هؤلاء الأمراء حدها من بأس و قوة – كالبعوضة
التي تعرف كيف تبعض – ستتغير تلك النفوس حتماً ، و ستنتقم علي نفسها ، و يلفظ بعضها البعض ،
كما يلفظ السامع الجيد للشعر ، الحرف الزائد في قصـيدة موزونة ، لأن الزيادة في الحروف تـعني الإقواء ، و هو عيب من عيوب القافية .
فأما اذا بقيت أحوال الأمراء علي ما هي عليه ، من إشاعة الفسـاد و الإستزادة من الثروات ، و إذا ما
إطمأنوا مل الإطمئنان الي ذلك و أخذوا بعضاً من راحتهم ، و ناموا و سُروا لنومهم لأنهم أُجهدوا
في جمع تلك الثروات ، فحياتهم سـتـتـناقص تدريجياً ، و لأنهم مسرورن بنفسهم لأن فيه إسـتـزادة،
و هم يودون الإستزادة من كل شيء ، فكان ثمن هذا الكرى ، هو حياتهم التي ستنتهي ولا محالة .
و في البيتين التاليين يقدم لنا أبو العلاء صفعة أخرى يُوجهها الي هؤلاء الأمراء ، و الي إنسان الدنيا
فيذكره بفضل الله عليه في تسكينه تعالي للأرض ، و رفعه للســماء من فـوقـها ، و وضـعه للشـمس
في كـبدها ، و توهـجــها لـتنير الأرض... و بـالرغـم مـن كــل تـلـك الـعلامـات ، فـالانـسـان
لـم يـكـف عـن بـلاهـتـه و بـلائـه ، فـيشــبهـه بـالجـيـاد الســوداء الـلـون التي تـعـيش في أمــان
مـع مـثيـلاتـها الغـراء ( التي في جـبـهـتـهـا بـيـاض ) لـكـن الإنـســان غـيـر الـجـيــاد .
و ينتقل بعد ذلك الي الدنيا ، وهو هنا يشبهـهـا بعروس في ثوب زفـافـها لـكـنهـا دنسـة ، و بالرغم
من دنـاسـتـهـا فالانـسـان يرغـبـهـا و يريـدها ، لكنهـا لم تقـتـرب منه بعد بالرغـم تـعـبـه و بحـثـه
عـنـهـا ، فالفـقـهـاء تجـادلـوا مـن أجلهـا ، كـمـا أ ن النـســاك تـعـبـدوا لـهـا أيـضــاً .
و يخـتـتـم أبـو العلاء الـلـزومـيـة بحكمة قائلاً : إذا حاولت أن تـقهـر النفس و تمنعها عن شيء
هي ولعة به ، ففي هذا الزجر و الـنهي إغـراءاً و ليس زجراً ، وهذا الشـيء هو الـدنـيـا .
والأفعال الناقلة للرسالة في هذه اللزومية تختص بقضيتين :
الأولي وهي الإنسان و الثانية وهي الدنيا .
و الإنسان الذى تعالجه هنا هو الإنسان السلبي الذى يتمثل في صورة الأمراء الذين أمروا بغير صلاح أُمتهم و ظلموا الرعية، وإستجازوا كيدها و تركوا مصالحها ، و هم أيضاً لا يقتنون خيراً .
والدنيا عند أبو العلاء دنسة من كثرة عبث الإنسان فهى تارة طامثا و أخرى طاهرة ، فهي هُوَيت
كثيراً من قِـبـَــل الإنسان ، حتى انه دُفن ولم يعرف أطاوعتـه أم لا .
و لنقف عند تشبيهين أحدهما يختص بالإنسان السلبي ، و الآخر يختص بالدنيا أيضاً .
أما التشبيه الأول فنقرؤه في البيت التالي :
كَريَت فسَرت بالكرى و حياتُها == أَكرَت فجرَّ نَواَئباً إكرَؤُها
فالكرى الأول و الثاني...هو النوم – كريت فسرت بالكرى .
أما أكرت ... هو النقصان - أكرت فجرَّ نوائباً إكراؤها .
فأبي العلاء أجاد رغم جناسه هذا في تصوير النوم ، وكيف يسرق من حياة البشر .
و التشبيه الثاني نقرؤه في البيت التالي :
ووجــدتُ دنيـانــا تُشابـه طامِثاً == لا تستقيمُ لناكحٍ أقْراؤُها
فأبي العلاء خبير بكل أحوال الدنيا ، و خبير أيضاً بخبايا المرأة ...
لكن هذا التشبيه يقف كحائل لما به من الفاظ ( طامث – ناكح – أقراؤها ) و كلها ألفاظ سلبية .
و إن كانت مل هذه الألفاظ تنطبق علي الواقع العلمي ، فأبي العلاء هنا لم يزهد في الدنيا ،
بل أرادها ، حتي انه في البيت التالي ذكر ( هُويِتْ ) ، و إن كان هذا الفعل مبنيا للمجهول ،
فالهواية تأتي من الإنسان ، و الجدل صاحبه الإنسان أيضاً .
و إن كان أبو العلاء زهد في الدنيا ، و زجرها ألم يـقـل هو في نهاية اللزومية :
و اذا زَجَرْتَ النفْسَ عن شغفٍ بها == فكأَنَّ زجْرَ غويِهّا إِغراؤُها
أما شغف أبو العلاء بالدنيا فكان من كثرة معالجته لموضوعاتها و قضاياها التي الح عليها
في لزومياته ، ا لتي فـَرَقَ بينها و بين الشعر صراحة - الذى ينكره على نفسه -
و إن كنا لن نستطيع نحن أن ننكره عليه .... فهـل هذا يـنـتـفي من الشعر....!!
علــلاني فإن بيــض الأمــاني == فـنـيـت، والظــــلام ليـس بفـــان
ان تـنـاسـيـتـمــا وداد انــــاس == فاجعلاني من بعض من تذكران
رب ليل، كأنه الصبح و الحسن == و ان كان أســـــود الطـيـلـســان
قد ركضنا فيه الي اللهو ، لمــا == وقــف الـنـجـم وقـفـة الحـيـران
و هل هذا ينتفي من الشعر و روضته أيضاً
غير مجد في ملتي واعتقادي == نـوح بــــاك ولا ترنم شـــــــــاد
وشبيه صوت النعي إذا قيـس == بصـــوت الـبشــير في كل نــــاد
أبكت تلكم الحمامة أم غـنـت == على فـــــرع غصنـهــا الميـــــاد
إن حزنًــا في ساعــة المــوت == أضعاف سرور في ساعة الميـلاد
..........................................
أما اذا كان أبو العلاء رفض الشعر كما يقول :
و قد كنت قلت في كلام ليَّ قديم أني رفضت الشعر رفض السقب غرسه و الرأ ل تريكته ، »
و الغرض ما أستجيز فيه الكذب و أستعين على نُظامه بالشبهات ، فأما الكائن عظة للسامع
و إيقاظاً للمتوسن و أمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة ، و أهلها الذين جـُـلِـبوا على الغش و المكر ،
فهو إن شـاء الله مما يلتمس به الثواب ، و أضيف الي ما سبق من الإعتذار أ ن من سلك في هذا
الاسلوب ضَعُـفَ ما ينطق به من النظام لأنه يتوخى الصادقة و يطلب من الكلام البزة ، و لذلك
ضَعُفَ كثير من شعر أُمية بن أبي الصلت ألثقفي ، و من أخذ بفَرّيه من أهل الإسلام ،
و يروى عن الاصمعى كلام معناه أن الشعر باب من أبواب ا لباطل ، فإذا أُريد به غير وجهه
ضَعُفَ ، وقد وجدنا الشعراء توصلوا الي تحسين المنطق بالكذب و هو من القبائح و زينوا
ما نظموه بالغزل و صفة النساء و نعوت الخيل و الإبل و أوصاف الخمر و تسببوا الي الجزالة
بذكر الحرب و احتلبوا أخلاف الفكر و هم أهل مقام و خفض في معنى ما يدَّعون أنهم يعانون
من حث الركائب و قطع المفاوز و مراس الشقاء » .
فإذا كان أبو العلاء رفض الشعر لانه كاذب ( أعذب الشعر أكذبه ) و هو يكتب ا لصدق ،
ليفضح أمور الدنيا ... التي يظن البعض أنه زهد فيها ....
فنحن نرى أن أبا العلاء صال و جال في روضة الشعر ، لكنه تَوَجَ ورود الروضة بأكاليل
من الشوكِ ، حتى إذا أردتَ الوردة ، فلك أن تنزع إكليل الشوك عنها ، و لك أن تجتهد في نزعه
والا تبقيه على حالته و إلا إستحالت عليك الورود ، التي أرادها أبو العلاء أن تكون متفتحة دائما .
فأبي العلاء نجح في إعطائنا صورة حية عن الدنيا و عن الإنسان ، و إن كان ظالماً بعض الشيء
للدنيا ، فلكراهيته لها و حقده عـليها ، لأنها سلبته بصره و صاغت له منظاراً أَسوداً
يطل به علي كل ما يراه .. حتي أنه لم يسـتطع أن يتبين النهار ، فهو يقول في لزومية أخرى :
غدونا سـائرين على وفــــاز == صـحاة مـثـل شراب ثمـا ل
على الفرسين لا فرسي رهان == أو الجـمـلين ليـس كالجما ل
و ما غضبي إذا جرت القضايا == بتفضيل اليمين علي الشما ل
فـلا يعـجـب بصـورته جـمـيل == فإن ا لـقـبح يـُطـوى كالجـما ل
كـذاك الدهـر إظـلام و صـبح == و ريح من جـنـوب أو شما ل
بلا مال عن الد نـيـا رحـيـلي == و صعـلوكاً خـرجـت بغير ما ل
فآه لو أبصر أبو العلاء النهار ، أو أدرك أنه قبيح ، لكان طوى قُبحه و أراح نفسـه و لكان رحل
من الدنيا و هو يمتلكها كلها .
نشر هذا المقال النقدى في جريدة الاتحاد ( الإمارات العربية المتحدة ) بالعدد رقم 169 الأحد 14 مايو 1989 - الموافق 9 شوال 1409 ه .