ليت , لعل , ربما والأخ سلاف
يا ليت عل وربما ؟؟؟؟ وسلاف !!
لا بد للناقد قبل البدء بتناوله لقصيدة ما أن يستشف الحالة النفسية التي مر بها ناظم القصيدة إن استطاع لذلك سبيلا ومن ثم يستشرف المناخ الذهني للشاعر .. فربما أرى بأن شاعرنا هنا يربط بين تساؤلاته وبين الجو الذي أملى عليه نظم هذه القصيدة . فكأنه يعبث بمزولة لقياس الزمن يسائلها ويستنطقها عن المناخ المحيط به , أو لعله يقف أمام مرآة ليرى على صفحتها ما بداخله.. وسوف أقتصر بتناولي للقصيدة على هذين المنظورين ولن أتطرق لسبك القصيدة حيث لم يكن ذلك هو ما ابتغيته من خلال هذه الرؤيا. ولكني فقط حاولت التحاور مع ذات الشاعر وهواجسه..
فهل ترجمت المزولة بأمانة ما أسقطته عليها أشعة الشمس من خلال امتداد ظلالها ؟ أو هل رأى شاعرنا صورته بالمرآة كما أرادها هو ؟ أم الذي قد ظهرت هي هواجس القلب وحيرة الذهن ؟ دعونا نستقرئ وإياكم هذين الإحتمالين ..
فلو افترضنا بأن شاعرنا قد بدأ بسؤال مزولته عن الزمن , أليس المناخ من أدوات الزمن ؟ وإلا فما معنى مفرداته التي لا تنطبق إلا على بحار يستقرى الطقس من حوله قبل نصبه للصاري بل وقبل شده الشراع قبل الإيذان بالإقلاع . وباختصار كأني بالشاعر يخاطب بعينيه عقارب بوصلة من نوع أخر فقد كانت تلك البوصلة تتأرجح كتأرجح هواجسه وأحاسيسه .
فلننظر معا لبعض مفرداته وتسلسلها:
رياحُ , مُزْنٌ , برقٌ , غما مٌ , عطشٌ , سقيا , قيظٌ هجيرٌ ..
لماذا هذه المفردات ؟ ولماذا سيقت على قلب شاعرنا ومن أوحى له بها ؟ أطلاسم ؟ أهواجس ؟ أفلسفة الرؤيا ؟؟؟ أم رؤيا الفلسفة ؟؟
فالجواب يسوقه الشاعر بإستدراك موفق حينما يقول :
دعني أحاولْ ثانيا
………...…..فلعلّني ولربما !!
-: أضحكتني أبكيتني !
………..أوَما ضرِسْتَ الحِصْرِما ؟
إذا هنا نرى شك الشاعر وحيرته وكأنه يقول لنا بأنه سيخرج عن مفاهيم مصطلحات الزمن ونراه يلقي بالمزولة جابنا ويأخذنا معه لنلقي نظرة على الصورة التي تبينها مرآته . إذا لنذهب مع الشاعر إلى منحى مغاير كليا عن استهلاله في بحثه عن إجابات لتساؤلاته .. فقد عول على ظروف من حوله فرأى فيها تناقضا جعله يزهد بالاعتماد عليها .. . وقد حاولت استقراء تقلبات مزاجه والتي بينها لنا الشاعر بمفردات ربما كانت متناقضة جدا لو أنها أتت في وقت واحد .. ولكن لا غرابة إذا كانت تلكم هي ترجمات لخلجات ذهن ولا أقول قلب .
ونهبط معا على سلم شاعرنا والذي لم يجعل لنا من خيار سواه ..ولننظر في مرآته ..
ماذا رأى الشاعر فيها وما الذي نراه نحن ولم يره الشاعر ؟
هذا هو بيت القصيد وعماده .. فلننظر هنا لنقرأ:
قلبي أجِبْ مالي أرا
……...…..كَ أصرتَ ويحكَ أبكما
ألا يدلنا هذا القول بأن الشاعر قد ألغى الاعتماد على عيونه بل قد نفاه بالقطع ولم يصدق ما أنبأت به من تقلبات للجو ؟ فهب أن شاعرنا كان كابي العلاء المعري ضريرا – لا سمح الله – فأين إحساسه وبصيرته ؟ فلو كانتا حتما سليمتين لنبأتاه عن سبب تقلب مزاجه وذهنه وروحه تماما كما يتقلب المناخ من حوله فالضرير يحس بالزمهرير والهجير والرياح والنسمات .!!
لا لم يكن شاعرنا ضريرا ولم يكن يلهو بمزولة أو أي آلة لقياس الزمن أو التنبؤ بأحوال مناخ ما ... بل كان في حالة أخرى تألفها طبيعة البشر ..
فما هي تلك الحالة ؟
إغماض شاعرنا لعينيه اللتين رأتا فعل الزمن وقرأتا منطوقه ولكن عقله لم يعول على ذلك ولم يقر بصدق الإجابات ولا بصحتها . لذا نرى الشاعر قد لجأ لقلبه ,, لمرآته التى تجلو له ما قصر العقل عن استنباطه .
ولكنا نفاجأ بالشاعر يحاول كبح جماح قلبه بنصيحة تنم عن تكرار ما عاناه الشاعر ولا تخلو من المران . حيث يقول :
كم قد نصحتُكَ سابقا
………....…....إني أراكَ مصَمِّما
فاحفظ لنفسكَ رجعةً
....................... أثراً تراهُ معلما
فعمى العيونِ مطبَّبٌ
……..…..موتُ البصائرِ في العمى
إذا هذه هي الصورة التي لم يرها الشاعر بأم عينيه ولكنه ترك لنا مهمة استشرافها ونراه قد ألقى التبعة على القارئ .. والناقد واحتفظ بداخله بما يحق للشاعر ألا يبينه .
فهل استطاع شاعرنا فك طلاسمه ؟ وهل وضع يده على الداء ؟ وهل وجد دواءً ناجعا لسقمه ؟ بل لأسقامه ؟
نعم .. لقد استطاع ببراعة وحذاقـة أن يفك طلاسمه وشخص داءه ولا أقول جرحه لأنه أحيانا يصعب على الطبيب سبر كنه الداء , أما الجرح فعادة ما يكون في موضع يسهل اكتشافه .. ونراه أيضا قد وصف العلاج . وكل ذلك من خلال السطرين الأخيرين اللذين ينطقان بفلسفة محيرة , ولا يخلوان من إشراك القارئ بهواجس الشاعر مهما نأى بنفسه عن ذلك حيث يقول :
هذَيانُ يقظةِ تائهٍ ؟
…….…….…..إن لم يَكُنْهُ فربما
حلُمٌ يحاور ذاته
……….……عبثاً أرى أن تحلما
إذا .. التساؤل, فالهواجس , فالطلاسم ,فالجرح , فالدواء .. كلها تقبع جميعا بين بعدين اثنين بلا مساحة بينهما ألا وهما الهذيان , والحلم . وجاء بينهما التحاور بل كان بينهما فارسنا المحاور . ونراه يقوم هنا مقام الناصح في قوله ( عبثا أرى أن تحلما) .. فمن الذي أملى النصيحة ولمن ؟ هل القلب إلى العقل أم العكس ؟ وهل الذات إلى الهواجس أم العكس ؟ هل هو استشراف للغد ؟ أم هل هو الخوف منه ؟
ولعلنا نتساءل .. هل لجأ شاعرنا إلى عالم قيافة لينبئه بوقوع شئ غامض تتوقعه نفسه ؟ هل نظر شاعرنا لطير زُجِرَ ليرى وجهته ؟ نعم فقد لجا لحدسه ولم يجعل للقيافة عليه من سلطان وزجَرَ طائره فطار ولم يغادر قفصه وها هو يتحدث لقلبه بفلسفة المنطق والبصيرة عندما أشار علية بمكانة الكمال ..
ونراه من خلال هذيانه وحلمه وتحاوره لم ينس أننا عطشى فقد بادر برقة ليسقينا من سلاف عصير فكره ما أثلج صدورنا وذلك برغم شح السحابات التي لبدت سماءه والخاوية من أي ماء . كما أحس بها هو .
شكرا لكم أيها الشاعر على ما أفضتم .. فهكذا أنتم , إن قلتم فلا بد للآخرين من أن ينظروا .. ولي استفسار بشأن بيتكم الذي تقول فيه .
أطلاسمٌ هذي سفتْـ
………ـكَ بها الرياحُ إذِ ارتمى
وليتني أعرف ما قصدك بمن ( ارتمى ) .. وربما إن اسعفنا الوقت سيكون لنا كلمة على ما أتبع به الأخ جمال (طلاسمكم )
وتقبلوا تحيات
Samy
|