# { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا
القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } .
نحن نقص عليك فدع قصص غيرنا ، ولا تلتفت إلى قصص سوانا ؛ لأن قصصنا هو الحق الصريح والعلم الصحيح ، قصص تسكب في النفس نهراً من النور ، وفي الضمير وابلاً من الرشد ، قصص ليس كقصص البشر الذي يعتريه ضعف النقل ، أو شذوذ الغرابة ، أو جموح الخيال ، أو مخالفة المعهود ، ومناقضة سنة الكون .
ويروى في بعض الآثار أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله: { نحن نقص عليك أحسن القصص } وقالوا: لو حدثتنا فأنزل: { الله نزّل أحسن الحديث } وقالوا: لو وعظتنا ، فأنزل: { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } .
إن في عالم المعرفة اليوم آلاف القصص بكل لغات البشر ، ولكنها عرضة للتحريف والتزييف والزيادة والنقص ، ثم إنها ليست قطعية في ثبوتها ولا دقيقة في نقلها مع ما يكتنفها من تهويل وتضخيم وتكلف وافتعال ، فبعضها لا حقيقة لها إلا في عقول مصنفيها ، وبعضها له أصل ولكنه أضيف إليه أضعافاً مضاعفة من المبالغة حتى مسخ الأصل وشُوِّه ، وبعضها ثابت لكن قُدِّم بأسلوب فاتر وعُرِض بعرض مشلول .
أما هذه القصة وأمثالها من قصص القرآن فيكفيها سمواً وجلالاً ورفعةً أن الله هو الذي يقصها على عبده المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله: { نحن نقص عليك } تنبيه على الإتجاه إلى مصدر المعرفة ومنبع الحقيقة ، والمسلم يتلقى علمه وثقافته من هذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . وما أدري كيف يصلح شأن أمة تستورد قصصها من مـروجـي المكر وساسة الخداع وسمـاسـرة الرذيلة ، وكيف يهتدي جيلها وهو يَطاله زبـد تلك الأقلام الكافرة بربها ، العاقة لفطرتها ، المتنكرة لمبادئها ؟!
ولن نقص عليك قصصاً فحسب بل أحسن القصص ، ويرى بعض أهل العلم أن أحسن القصص هنا هي قصص القرآن كله ، فقصصه باالنسبة لعامة القصص أحسن قصص وأوثقها وأجملها وأكملها.
ومن أهل العلم من قال: بل المقصود بأحسن القصص قصة يوسف ؛ لأنها المذكورة في السياق المقدم لها بهذا الإحتفال والتنبيه .
وإن قصة يوسف أحسن قصة باالنسبة لما يماثلها في غرضها ومعناها ، بل كل قصة في القرآن أحسن وأجل من مثيلاتها في غير القرآن ، وقصة يوسف أحسن قصة ، لأن فيها من مقاصد الهداية ومعاني الإصلاح وأسرار الفلاح ما يفوق الوصف .
فقصص الناس إما قصة بطولية تهيّج النفس الغضبية على الإعتداء وطلب الثأر وحب الإنتقام بلا ضوابط ولا أصول ، وإما قصة غرامية تشعل الغريزة وتحرك كوامن الشهوة بلا رادع من تقوى ، ولا وازع من عفاف ، ولا حجاب من صيانة ، وإما قصة غابرة بلا ثقة من ناقل ، ولا اطمئنان إلى صدق ، ولا مراعاة للحقيقة .
قصة يوسف فيها دروس تربوية ترتقي باالنفس في سلم الفضيلة ، وتصعد باالروح في معارج الكمال .
في القصة كيف تكون خاتمة من آمن باالله ، وصدق معه ، وأخلص له ، وصبر على أمره ، ودعا إليه ، وجاهد في سبيله . وفي القصة نهاية المكر ، وعاقبة الكيد المحرم ، والحسد المؤذي ، وفيها انتظار الفرج وحسن الظن باالله ، والفأل الحسن والإستكانة إلى موعوده ، والرضا بأمره والسكون إلى اختياره ، والإطمئنان إلى جميل صنعه .
وفيها جلال التقوى وجمال العفة ، وحسن مراقبة الله ، وإيثار طاعته والإنتصار على النفس الأمارة باالهـوى الجارف والشباب المجنح .
في قصة يوسف رؤيا تفسر ، وأحلام تعبر ، وأمثال تضرب ، وعظات تطرق ، ودروس تلقى .
في القصـة قميصٌ يُلطَّخ بـدم ، ، وقميص يُقَدُ من دبـر ، وقميص يلقى على الأعمـى فيرتد بصيراً .
في القصة رجل يتهم بإمـرأة ، ورجل يتهم بسرقـة ، وذئـب يتهم بقتل ، وفيها طفـل يصارع الحياة ، وإخـوة يغلبهم الحسد ، وأي يبـرح به حب ابنه ، وبئـر يلقى فيها غـلام ، وقافلة تبيع العبيد ، وملك يغفل أمور القصر ، وإمرأة يغلبها هواها ، وزنـزانـة تستقبل داعية ، وشيخ كبير يذهب البكاء ببصره ، وقافلة تعبر الصحراء لطلب المعاش ، وصـواع الملك يختفي ، ومحاكمة وشهـود ، ومفاجآت ليست في الحسبان .
كل موقف يختم بحبكة وكل مشهد ينتهي
في القصة آهـات ودمـوع ، وتفجـع وشكـوى ، واتهامات وحقائق ، ومكايـد ودسائس ، وإهباطات وانتصارات ، وفيها وحشة غائب ، وفـرحة لقاء ، وحـزن فرقـة ، وسرور اجتماع ، وإسمـال فقـر ، وهالـة ملك ، ونفس أمـارة ، ونفس مطمئنة ، نبـوة وسلطان ، حريـة ورق ، نساء وخـدم ، حاشية ومستشارون ، شباب وشيـوخ ، بيع وشـراء .
قميص من عالم اللباس ، وإمرأة في دنيا النساء ، وذئـب وسبع بقـرات في أرض الحيوان ، وصـواع من قسم الأواني .
طفل يفقده أهله ، ويكيده إخوانه ، ويبكيه أبـوه ، ثم يباع في سوق الرقيق ، ثم يدخل الخدمة في القصر ، ثم يعيش النكبة في السجن ، ثم ينعم باالملك ، ثم يحضـى بجمع الشمل وتمام الأمر وكمال الأمنية ، ثم يمـوت .
المشاهد تلاحقـك أينمـا اتجهـت ، الصـورة تمـلأ ناظريـك حيثما التفت ، يثب قلبك مع كل مشهد ، ويقفز مع كل حركـة .