إثبات اليدين لله تعالى
إثبات اليدين لله تعالى
وقوله: ]ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي[، ]وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء[(1)..............................
(1) ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات اليدين لله تعالى آيتين:
الآية الأولى: قوله: ]ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي[ [ص: 75].
* ]ما منعك[: الخطاب لإبليس.
* و ]ما منعك[: استفهام للتوبيخ، يعني أي شيء منعك أن تسجد.
* وقوله ]لما خلقت بيدي[: ولم يقل: لمن خلقت، لأن المراد هنا آدم، باعتبار وصفه الذي لم يشركه أحد فيه، وهو خلق الله إياه بيده، لا باعتبار شخصه.
ولهذا لما أراد إبليس النيل من آدم وخط قدره، قال: ]أأسجد لمن خلقت طينا[ [الإسراء: 16].
ونحن قد قررنا أنه إذا عبر بـ(ما) عما يعقل، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لا معنى العين والشخص، ومنه قوله تعالى: ]فانكحوا ما طاب لكم من النساء[ [النساء: 3]، لم يقل: (من)، لأنه ليس المراد عين هذه المرأة، ولكن المراد الصفة.
فهنا قال: ]لما خلقت[، أي: هذا الموصوف العظيم الذي أكرمته بأنني خلقته بيدي، ولم يقصد: لمن خلقت، أي: لهذا الآدمي بعينه.
* وقوله: ]لما خلقت بيدي[: هي كقول القائل: بريت بالقلم والقلم آلة البري، وتقول: صنعت هذا بيدي، فاليد هنا آلة الصنع.
]لما خلقت بيدي[، يعني: أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وهنا قال: ]بيدي[، وهي صيغة تثنية، وحذفت النون من التثنية من أجل الإضافة، كما يحذف التنوين، نحن عندما نعرب المثنى وجمع المذكر السالم، نقول: النون عوض من التنوين في الاسم المفرد. والعوض له حكم المعوض، فكما أن التنوين يحذف عند الإضافة، فنون التثنية والجمع تحذف عند الإضافة.
في هذه الآية توبيخ إبليس في تركه السجود لما خلقه الله بيده، وهو آدم عليه الصلاة والسلام.
وفيها: إثبات صفة الخلق: ]لما خلقت[.
وفيها: إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى: اليدين اللتين بهما يفعل، كالخلق هنا. اليدين اللتين بهما يقبض: ]وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة[ [الزمر: 67]، وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه(1).
وقوله: ]لما خلقت بيدي[: فيها أيضاً تشريف لآدم عليه الصلاة والسلام، حيث خلقه الله تعالى بيده.
قال أهل العلم: وكتب الله التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
فهذه ثلاثة أشياء، كلها كانت بيد الله تعالى.
ولعلنا بالمناسبة لا ننسى ما مر من قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله خلق آدم على صورته، وذكرنا أن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها، ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل.
الآية الثانية: قوله: ]وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء[ [المائدة: 64].
* ]اليهود[: هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام.
سموا يهوداً، قيل: لأنهم قالوا: ]إن هدنا إليك[ [الأعراف: 156]، وبناء على هذا يكون الاسم عربياً، لأن هاد يهود ـ إذا رجع ـ عربي.
وقيل: أن أصله يهوذا، اسم أحد أولاء يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالاً، فقيل: يهود.
وأياً كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا.
ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتواً ونفوراً، لأن عتو فرعون وتسلطه عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب ـ قبحهم الله، وهم أهلها.
* يقولون: ]يد الله مغلولة[، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى: ]ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك[ [الإسراء: 29]، أي: محبوسة عن الإنفاق.
وقالوا: ]إن الله فقير[ [آل عمران: 181]!
أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو: هذا هو الغل وعدم الإنفاق!!
وقالوا: إن الله فقير، لأن الله قال: ]من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له[ [البقرة: 245]، فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!!
وقالت اليهود أيضاً: إن الله عاجز، لأن حين خلق السماوات والأرض، استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!!
* هنا يقول الله عز وجل: ]وقالت اليهود يد الله مغلولة[: ]يد[: أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين، ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال: ]بل يداه مبسوطتان[.
* ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال: ]غلت أيديهم[، أي: منعت عن الإنفاق، ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعاً للمال ومنعاً للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحاً في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلساً، إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهماً، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.
فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: ]غلت أيديهم[، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر.
* ]ولعنوا بما قالوا[، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل، لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين:
1- بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: ]غلت أيديهم[.
2- وبإلزامهم بمقتضى قولهم، بإبعادهم عن رحمة الله، حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله.
* ]بما قالوا[: الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب).
و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم.
* ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال: ]بل يداه مبسوطتان[.
* ]بل[: هنا للإضراب الإبطالي.
وانظر كيف اختلف التعبير: ]بل يداه مبسوطتان[، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة.
* ]مبسوطتان[: ضد قولهم: ]مغلولة[، فيد الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء:
كما قال النبي r: "يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمين.
من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد! ومع ذلك لم يغض ما في يمينه.
وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.
ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته، لا ينقص البحر شيئاً أبداً، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص، لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أم معلوم، مستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضاً أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئاً، لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"، لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثاً ولغواً.
لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.
ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول!
المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى.
وليس إنفاق الله تعالى لما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.
أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: ]يد الله مغلولة[؟!
لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى.
لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيداً ولم يعط عمراً؟
قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة، ولهذا قال رداً على شبهتهم: ]ينفق كيف يشاء[، فمن الناس من يعطيه كثيراً، ومنهم من يعطيه قليلاً، ومنهم من يعطيه وسطاً، تبعاً لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلاً ليس محروماً من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعاً وبصراً وعقلاً وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا: ]يد الله مغلولة[.
فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل.
ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين، لقوله تعالى: ]أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً[ [يس: 71]، فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع، لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟
فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعاً:
أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد العموم، فيشمل كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى: ]وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها[ [إبراهيم: 34]، فـ ]نعمت[: مفرد مضاف، فهي تشمل كثيراً، لقوله: ]لا تحصوها[، إذاً: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين.
]يد الله[: نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت، لأن المفرد المضاف يفيد العموم.
أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
|