الشخصية
[size=5][font=Arial Black]
الشخصية
يقوم الإنسان بأعماله ليشبع غرائزه وحاجاته العضوية ومجموع هذه الأعمال هو سلوك الإنسان وهذا السلوك مرتبط بمفاهيم الإنسان عن الأشياء والأفعال والحياة. والسلوك هو الذي يدل على شخصية الإنسان، ولا دخل لهندامه أو شكله أو لونه أو جنسه في شخصيته.
فالشخصية هي طريقة عقل الإنسان للواقع، وهي أيضاً ميوله نحو الواقع.
وبمعنى آخر شخصية الإنسان هي عقليته ونفسيته. فما هي العقلية ؟ وما هي النفسية؟
العقلية:
قال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
يحس الإنسان بالواقع، فيربط هذا الواقع بالمعلومات السابقة الموجودة لديه عن هذا الواقع، ثم يحكم على هذا الواقع بناء على القاعدة الفكرية التي يتخذها مقياساً له في تفكيره.
فالبترول – مثلاً – الذي أطلق عليه الذهب الأسود، واقع يحسه الإنسان ويثير عنده حب التملك، فيحكم عليه الإنسان بأنه يشبع غريزة البقاء.
ولكن القاعدة الفكرية التي يتخذها الإنسان مقياساً للحكم على الأشياء تضيف للحكم السابق بعداً آخر.
فالمسلم يرى أن البترول الذي يشبع غريزة البقاء يجب أن يكون ملكية عامة يأخذ منها حصته كما يأخذ غيره حصصهم، فلأفراد المجتمع جميعهم حق فيه، ويرى الرأسمالي أن البترول الذي يشبع غريزة البقاء ملكية فردية، يحق له أن يتملك ما يستطيع تملكه منه دون أن يراعي حقوق الآخرين.
والمرأة الجميلة واقع يثير الميل الجنسي عند الرجل، فيحكم عليه أنه امرأة تشبع جزءاً من غريزة النوع، ولكن القاعدة الفكرية التي يتخذها الإنسان مقياساً في حكمه على الواقع تضيف للحكم الأول بعداً آخر.
فالمسلم يرى أن المرأة التي تشبع غريزة النوع هي عرض يجب أن يصان، بينما الرأسمالي يرى أن المرأة التي تشبع غريزة النوع، هي سلعة يستفاد منها في إشباع غريزة النوع، وفي تحقيق المكاسب المادية كالتجسس والدعاية وجلب الزبائن، فيحكم أيضاً أن المرأة تشبع غريزة البقاء وتحقق له قيمة مادية.
وسبب الاختلاف في الحكم الذي أطلقه المسلم والرأسمالي على البترول وعلى المرأة آت من اختلاف القاعدة الفكرية، التي يفكر على أساسها كل من الاثنين.
فالعقيدة الإسلامية التي تنبثق عنها أحكام المسلم غير العقيدة الرأسمالية التي ينبثق عنها أحكام الرأسمالي.
فالعقلية هي الكيفية التي يجري على أساسها عقل الشيء أو إدراكه، أو هي الكيفية التي يربط بها الإنسان الواقع بالمعلومات بقياسها إلى قاعدة أو قواعد معينة.
والعقلية الإسلامية تعقل الأشياء والأفعال وتحكم عليها بناء على القاعدة الفكرية الأساسية عند المسلم، وهي العقيدة الإسلامية، لأن الأحكام الشرعية التي تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربه وبغيره، ويستعملها للحكم على الأشياء والأفعال، هذه الأحكام تنبثق عن العقيدة الإسلامية، فالمسلم يحس بالواقع ثم يربط الواقع بالمعلومات السابقة فيدرك ماهية هذا الواقع، ثم يبحث عن الحكم الشرعي لهذا الواقع، ويطلقه على هذا الواقع، وهذه العملية من الإحساس إلى إطلاق الحكم الشرعي تسمى العقلية الإسلامية، فمن يسلك هذه الطريقة في إدراك الواقع والحكم عليه يحمل عقلية إسلامية، فيحكم على الجهاد بأنه فرض، وعلى الصدقة بأنها مندوب، وعلى التفاح بأنه مباح وعلى التداوي بالنجس بأنه مكروه، وعلى الزنا بأنه حرام، لأن الحكم الشرعي وهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد لا يخرج عن أن يكون حكماً من الأحكام الخمسة : الفرض، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام.
والذي يحدد أن الحكم حكم الشرعي هو أخذ الحكم من الدليل الشرعي المأخوذ من الوحي، أي هو انبثاق هذا الحكم عن العقيدة الإسلامية.
قال تعالى : (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم يحملون عقليات إسلامية متميزة يدركون بها الواقع من وجهة نظر الإسلام، ففي صلح الحديبية يقول ابن هشام نقلاً عن ابن اسحق عن الزهري:
(فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبو بكر، فقال : يا أبا بكر، أليس برسول الله ؟ قال : بلى، قال : أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى، قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : بلى، قال عمر، فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال أبو بكر : يا عمر، الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله ...) .
فأبو بكر بعقليته الإسلامية الفذة، أدرك أن صلح الحديبية الذي وافق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم جائز، فقال لعمر الذي لم يدرك في أول الأمر ذلك الحكم : (الزم غرزه يا عمر – أي اتبع أمره – فإني أشهد أنه رسول الله) ، فقد انبثق حكمه على الصلح من العقيدة الإسلامية، وهي كونه يشهد أن محمد رسول الله ...، ويتلقى الأمر من الله تعالى.
أما عمر بن الخطاب، وهو أيضاً عقلية إسلامية متميزة فقد قال لأبي بكر : وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى الرسول عليه السلام فقال : يا رسول ألست برسول الله ؟ قلى : بلى، قال عمر، فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني.
قال الزهري : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً.
فعمر بقوله : (وأنا أشهد أنه رسول الله) يبين بأنه لا يزال مسلماً، ولا يزال يأخذ أحكامه من الإسلام، وقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ حكم الصلح منه، ورضي به.
فالقاعدة الأساسية التي يتخذها الإنسان لتكون مقياساً للحكم على الواقع هي التي تحدد نوع العقلية، فالذي يعقل الواقع من جهة نظر الإسلام تكون له عقلية إسلامية، والذي يعقل الواقع من وجهة نظر الرأسمالية تكون له عقلية رأسمالية، والذي يعقل الواقع من وجهة نظر الشيوعية تكون له عقلية شيوعية، والذي يعقل الواقع من وجهة نظر قاعدة لا أساس لها، تكون عقليته غير متميزة.
النفسية:
قال عليه السلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) .
إن الغرائز والحاجات العضوية عند الإنسان، تتطلب إشباعاً، وتدفع إلى القيام بأعمال من أجل الإشباع، وتحرك الإنسان فطرياً نحو الإشباع تسمى دوافع، فإن تركت هذه الدوافع دون ضوابط، أشبع الإنسان غرائزه وحاجاته العضوية على هواه، إلا أن هذه الدوافع لا بد وأن ترتبط بمفاهيم الإنسان عن الأعمال والأشياء، لأن الإنسان يعيش في مجتمع تتحكم فيه أفكار معينة، وتؤثر فيه هذه الأفكار فتجعل لديه مفاهيم معينة تتحكم في دوافعه.
هذا الارتباط بين الدوافع ومفاهيمه الذي يحدث تلقائياً في داخله يطلق عليه الميول، فالميول أرقى من الدوافع، لأن الميول دوافع مرتبطة بمفاهيم.
ودوافع الإشباع موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، بينما الميول موجودة عند الإنسان وغير موجودة عند الحيوان، لأن الإنسان يتميز عن الحيوان بالإدراك، وبالإدراك وحده توجد المفاهيم.
فالنفسية هي الكيفية التي يربط بها الإنسان دوافع الإشباع بالمفاهيم، وهذه المفاهيم تعود إلى أفكار معينة تنبثق عن وجهة النظر المحدودة أو غير المحدودة في الحياة .
فإن كانت المفاهيم تنبثق عن العقيدة الإسلامية كانت النفسية نفسية إسلامية، وإن كانت المفاهيم تنبثق عن العقيدة الشيوعية أو الرأسمالية كانت النفسية نفسية شيوعية أو نفسية رأسمالية، وإن كانت المفاهيم تنبثق عن قواعد متعددة كانت النفسية فوضوية.
والنفسية هي التي تجعل الإنسان يقدم على القيام بالعمل أو يحجم عن القيام به، فهي التي تتحكم في دوافع الغرائز والحاجات العضوية.
فالمسلم قبل تحريم الخمر كان يقدم على شربها، لأن مفهومه عنها أنها مباح، ولما نزل قوله تعالى : (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون) قالوا عندما سمعوا الآية : قد انتهينا، وعمدوا إلى الخمور التي في حوزتهم وسكبوها في شوارع المدينة، وصاروا بعد ذلك يحجمون عن شرب الخمر.
فتغيير المفهوم عن الخمر غير الميل إلى الخمر، وهذا الميل الجديد الناتج عن ربط الدافع بالمفهوم هو النفسية.
وجاءت المفاهيم الإسلامية لتغيير ميول العرب، وقد غيرتها جذرياً، وتروي لنا السيرة قصة أخوين أحدهما أسلم وهو محيصة بن مسعود، والآخر ظل على كفره حويصة ابن مسعود، إذ طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلم محيصة أن يقتل كعب بن يهوذا أحد زعماء بني قريظة، فقتله فجاء أخوه الكافر يعاتبه قائلاً : أقتلت كعب بن يهوذا، أما والله لرب شحم قد نبت في بطنك من ماله، إنك للئيم يا محيصة، فقال محيصة : لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك، قال حويصة : والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة.
فنفسية الشقيق المسلم التي ربطت دوافعه بمفاهيمه جعلت ميوله حسب الأحكام الشرعية لا حسب غرائزه ومصالحه، مما جعله يقول لشقيقه الكافر : لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك، وهذه النفسية الصادقة التي أوجدها الإسلام جعلت أخاه الكافر يعلن إسلامه.
الشخصية عقلية ونفسية:
قال عليه السلام : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون عقله الذي يعقل به) .
قال عليه السلام : (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) .
العقلية هي الكيفية التي يجري على أساسها عقل الواقع أو إدراكه، أو هي الكيفية التي يربط بها الإنسان المعلومات السابقة بالواقع بقياسها إلى قاعدة أو قواعد معينة.
والنفسية هي الكيفية التي يربط بها الإنسان دوافع إشباع غرائزه وحاجاته العضوية بمفاهيمه، أو هي الميول الناتجة عن ربط المفاهيم بالدوافع.
فما هو الرابط بين النفسية والعقلية؟
إن الأمر الطبيعي في الإنسان أن يدرك الأشياء والأعمال، ثم يحكم عليها بالقياس إلى قاعدة معينة كالعقيدة التي يعتنقها، ومن هذا الإدراك يحصل عنده مفاهيم، أي يصبح لأفكاره مدلولات في الواقع، يقع عليها الحس أو يتصورها الذهن ويصدقها كواقع محسوس، فتؤثر هذه المفاهيم في دوافع الإشباع وتخضعها، فتصبح لديه ميول للإشباع ناتجة عن ربط المفاهيم بالدوافع، عندها، يكون الارتباط بين عقلية الإنسان ونفسيته حاصلاً لأن المفاهيم التي تكونت عنده عن طريق عقل الواقع (أي عقليته) تحكمت في الميول الناتجة عن ربط المفاهيم بالدوافع (أي نفسيته).
وهذا الارتباط بين العقلية والنفسية يظهر واضحاً في الشخصية المتميزة، فهذا أنس بن النضر أحد الصحابة رضي الله عنه قد مر في غزوة أحد بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد جلسوا وألقوا سلاحهم بعدما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال لهم أنس : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل قريشاً، فقاتل حتى قتل رحمه الله. هذا السلوك من أنس بن النضر يدل على شخصيته المتميزة ويدل على ارتباط وثيق بين عقليته ونفسيته، فأنس بن النضر أحس بالواقع وهو تخاذل الصحابة بعد إشاعة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فربط هذا الواقع بالمعلومات السابقة (مرارة الهزيمة، وتحريم التولي يوم الزحف، وأثر إشاعة مقتل الرسول على الصحابة) ، وحكم على هذا الواقع بقياسه إلى القاعدة الأساسية لأفكاره، وهي العقيدة الإسلامية، بأن القتال فرض، وأن عقبى الشهيد الجنة، وأن الأجل محدود، وأن الفرار من المعركة حرام، وهذه الأفكار مفاهيم عنده، لأنه يتصورها ويصدقها ويؤمن بصحتها، ثم ربط بين هذه المفاهيم ودوافع غرائز البقاء التي من مظاهرها، المحافظة على الحياة، والخوف من الموت فسيَّر هذه الدوافع بمفاهيمه، وصار يميل إلى القتال ولو أدى إلى ما يخالف الدوافع الغريزية، فعقلية أنس بن النضر الإسلامية، غيرت دوافعه، وجعلتها ميولاً إسلامية، فصارت نفسيته تميل إلى القتال وإلى الشهادة واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
|