كل أحد لابد أن يصبر على بعض ما يكره اما اختياراً واما اضطراراً فالكريم يصبر اختياراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر وأنه يحمد عليه ويذم على الجزع، وأنه ان لم يرد الجزع عليه فائتا ولم ينزع منه مكروهاً، وأن المقدور لا حيلة في دفعه وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله فالجزع ضره أقرب من نفعه قال بعض العقلاء: )العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر كما قيل: وأن الأمر يفضى إلى آخر فيصـير أخـــره أولاً
فاذا كان آخر الأمر الصبر والعهد غير محمود فما أحسن به أن يستقبل الأر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره
وقال بعض العقلاء: )من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم( فالكريم ينظر إلى المصيبة فان رأى الجزع يردها ويدفعها فهذا قد ينفعه الجزع، وان كان الجزع لا ينفعه فإنه يجعل المصيبة مصيبتين
فصل
وأما اللئيم، فإنه يصبر اضطراراً، فإنه يحوم حول ساحة الجزع فلا يراها تجدى عليه شيئاً فيصبر صبر الموثق للضرب وأيضاً فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقل الناس صبراً في طاعة ربهم فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء، ويصبر على تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه، ويصبر على ما يقال في عرضه في المعصية، ولا يصبر على ما يقال في عرضه اذا أوذي في الله، بل يفر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشية أن يتكلم في عرضه في ذات الله ويبذل عرضه في هوى نفسه ومراده ولا يصبر على التبذل لله في مرضاته وطاعته فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس وأعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله، وهذا أعظم اللؤم، ولا يكون صاحبه كريماً عند الله ولا يقوم مع أهل الكرم اذا نودي بهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم: أين المتقون؟