5-
وكلما تقدم بالإنسان العمر قويت حجة الله عليه، وأصبحت مسؤوليته عما يزاوله أعظم، لأن الله تعالى أعطاه فسحة من العمر تمكنه من الرجوع إلى ربه والتوبة إليه مما قد يرتكبه من معاصيه، فلم يعد له عذر عند ربه.
ولهذا عد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، الشيخ الزاني ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليه، لأن الغالب أن دواعي الزنا عند المتقدمين في العمر، تقل وتضعف، فتعاطيهم له دليل على تأصل حب الشر والمعصية، والبعد عن الخير والطاعة..
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ـ قال أبو معاوية ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم ـ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ).. [صحيح مسلم (1/102)].
قال تعالى عن الكفار الذين طلبوا منه إخراجهم من النار التي استحقوها بأعمالهم الخبيثة، ليعملوا أعمالا صالحة غير تلك الأعمال القبيحة: ((
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )). [فاطر: 37].
وكون الآية نازلة في شأن الكفار لا يمنع من الاستدلال بها على من فرط من المسلمين في عمره، فارتكب المعاصي وترك الطاعات، لأن كلا من الكفار والمسلمين فرطوا في أعمارهم التي جعل الله تعالى لهم فيها فسحة، وكل منهم عصى ربه، وإن اختلفت المعصية في مراتبها.
و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
(
إذا بلغ الرجل من أمتي ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر )..
وحديثه الآخر: قال:
"
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك ) [المستدرك على الصحيحين (2/463) وقال في الحديث الأول "صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وقال في الثاني: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ورواه الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه (5/553)].
6-
ومما يحفز المسلم على أن يحرص على طاعة الله تعالى في كل مراحل عمره أن حياته ومماته وكل حركة يتحركها أو سكنة يسكنها، مأمور أن يتوجه بها إلى طاعة ربه سبحانه وتعالى، فإذا ما انزلق عن التوجه إلى الله في أي لحظة من لحظاته خيف عليه من سوء العاقبة..
قال تعالى: ((
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) [الأنعام].
ونهاه الله تعالى عن ترك اتخاذ الأسباب التي يعينه بها على الموت مسلما، وتلك الأسباب هي طاعة الله وترك معصيته، وإلا فما الذي يجعله آمنا على الموت في يكون الله فيه ساخطا عليه؟
قال تعالى: ((
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [البقرة (132)].
وأمره تعالى في جميع مراحل عمره أن يكون قائما بعبادته حتى يأتيه الموت..
قال تعالى: ((
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )) [الحجر (99)].
7-
جاء في الحديث الصحيح ما يوجب على الإنسان الحذر من سوء الخاتمة التي قد لا يكون متوقعاً حدوثها، فلا بد من الحذر منها ولا يركن إلى نفسه وإلى ما يقوم به من عمل الخير الظاهر، فإنه قد لا يكون هو خاتمة حياته..
كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ).. [صحيح البخاري 3/1061 و صحيح مسلم (1/106) وفي بعض روايات الحديث عند البخاري (6/2436)] زيادة في آخره: (
الأعمال بالخواتيم ) وفي لفظ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إنما الأعمال بالخواتيم ).. صحيح ابن حبان (2/52)]
فالخاتمة يا أحبابي هي المعتبرة، فاحرصوا على أن تكون خاتمتكم خاتمة خير يرضى الله تعالى عنكم بها، ولا تغتروا بالسوابق فقد تهدمها اللواحق أدام الله لنا سوابق الخير وأماتنا عليه، وأعاذنا الله وإياكم من اللواحق الهدامة.
كثرة عبادة الرسول والصحابة وأتباعهم..
8-
واعتبروا بحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الإكثار من الطاعات القولية والعملية المبنية على الأصل الثابت في القلب "الإيمان القوي واليقين الجازم اللذين تنبثق عنهما جميع الطاعات الظاهرة.
فقد كان صلى الله عليه وسلم مع علمه بأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه – وهل لذنبه مع ذنوبنا نسبة؟ - كيف كان ينصب ويتعب في عبادة ربه، فلا يفتر عنها.
كما في حديث المغيرة رضي الله عنه، قال:
إ
ن كان النبي صلى الله عليه وسلم، ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه.. فيقال له؟
فيقول: (
أفلا أكون عبدا شكورا ) [صحيح البخاري (1/380 وصحيح مسلم (4/2171)]..
وفي حديث أبي هريرة:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (
والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) [صحيح البخاري (5/2324]
فلنكن في جميع أعمارنا غرباء..
ولتكن الغربة في الدنيا شعارنا، وهو ما وصى به الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، فلا يجعلون الدنيا التي سينتقلون منها حتماً، مهما طالت أعمارهم فيها، ولنعتبر بمن سبقنا في هذه الدنيا من الأمم والأفراد من لدن أن بدأ الله الخلق إلى يومنا هذا هل بقي فيها أحد من المخلوقين، من أناسي أو حيوانات؟
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )..
وكان ابن عمر يقول:
"
إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [صحيح البخاري (5/2358)]
القبر، البعث والنشور والحساب، والصراط، والجنة والنار..
وعلى هذا ينبغي للأستاذ من مرحلة حلقات الكتاتيب إلى مرحلة الدراسات العليا، أن يستحضر وهو يدرس تلاميذه أنه هو نفسه في حاجة إلى الاتعاظ بما يعلم به تلاميذه والعمل به، وكذلك الطالب، ومعنى هذا أن التربية "التزكية والتعليم" تصاحب الأستاذ والتلميذ حتى يلقيا ربهما.[/size]
موقع الروضة الإسلامي..
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=start