الصعيد الأصلي للقضايا السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم
1ـ تجدر العناية ببحث القضايا على صعيدها الأصلي عند الربط السياسي بمعرفة الأساس الذي انطلقت منه الأحداث ، والجهة التي تسير إليها. ولا يصح إسقاط الأحداث و القضايا على بعضها البعض دون وجود رابط بينها ، أو لمجرد الاشتباه بوجود رابط ، ولأجل سلامة الفهم السياسي لابد من استبعاد المنطق ، وعدم القياس الشمولي والتعميم ، وعدم تجريد المسألة من ظروفها ، وعلى سبيل المثال : تستخدم الولايات المتحدة سياسة الاحتواء المزدوج، بتوظيف إيران و العراق للضغط على إسرائيل ودول الخليج . ولكن لابد من التفريق بين الأعمال السياسية التي يقوم بها العراق و يراد منها الضغط على إسرائيل ، وبين ما يراد به الضغط على دول الخليج عند بحث تلك الأعمال على صعيدها الأصلي .
صحيح إن مجرد الإشارة إلى امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ، كفيل بأن يحقق الضغط على الجهتين ، ولكن الدقة في الرأي تقتضي ملاحظة الظرف السياسي المحيط بتحرك العراق بأعمال الضغط ، حتى تعرف الجهة المقصودة بها ، ويعرف مسار الوضع السياسي في المخططات الأمريكية في الجهة المقصودة بالضغط ، إذ الضغط على دول الخليج كان يكشف عن عوائق أمام المخطط الأمريكي في الهيمنة على الخليج ، والضغط على إسرائيل يكشف عن عقبات حقيقية تعترض مسار العملية السلمية من الجانب الإسرائيلي سواء على صعيد الرأي العام الإسرائيلي أو على صعيد الحكومة الإسرائيلية .
إن انفراد الولايات المتحدة بالموقف الدولي ، و إقصائها خصومها الدوليين من التأثير في العلاقات الدولية _ إلا بالقدر الذي تسمح لهم به ، وبما يخدم مصالحها في القضايا الدولية _ جعل أعمالها السياسية الدولية تسير إلى إعادة تأهيل وترتيب الأوضاع الدولية من أقاليم وأنظمة ومفاهيم بما يتلاءم مع انفرادها بالموقف الدولي . هذا هو الخط العريض لما يجري من أحداث عالمية ، ويصادق عليه الواقع .
فإزالة التوترات بين الدول في الأقاليم وإقرار أوضاعها أمر لا يكذبه الحس وينسجم مع تطلع الولايات المتحدة في تركيز انفرادها و تخفيف الأعباء عن كاهلها في قيادة العالم ، فضلا عن كون الاستقرار في المناطق هو نتيجة طبيعية لحالة الانفراد في الموقف الدولي .
فالتقارب من حيث هو بين الدول هو إستراتيجية عامة لأمريكا بعد انفرادها ، ولكن التقارب بين دولة وأخرى يبحث على صعيد خصوصية المنطقة وطبيعة المصالح الأمريكية . فالمصالحة السودانية لا تدخل في إطار بحث العملية السلمية حتى ولو تزامنت مع السعي لعقد قمة عربية لاتخاذ قرارات مصيرية بشأن العملية السلمية ، وحتى وإن كانت السودان دولة عربية، وداخلة في إقليم الشرق الأوسط من ناحية جغرافية. فالمدقق في قضايا السودان لا يجد لها أي تداخل مع قضية الشرق الأوسط ، ولا أثر لها على مجريات أحداثه السياسية . وإنما تدخل قضاياه ضمن منطقة البحيرات العظمى والقرن الإفريقي ، حيث يدعم السودان حركات المعارضة لتلك الدول ، بينما تحتضن تلك الدول حركات المعارضة السودانية . لذلك كان لابد من أجل إنهاء حالة التوتر في منطقة البحيرات والقرن الإفريقي ، من جر المعارضة السودانية من الخارج . الأمر الذي أدى إلى إعادة صياغة النظام السوداني على أساس المصالحة الوطنية ، فكانت الأزمة المفتعلة بين البشير والترابي نتيجة حتمية لما يخطط للسودان والمنطقة . هذا هو صعيد القضية السودانية ، ولا علاقة له بما يجري في الشرق الأوسط ، ولا يصح خلط القضايا وإسقاطها على بعضها دون رابط بينها ، أو لمجرد الاشتباه بوجود رابط ، أو لمجرد الربط على إطلاقه .
أما الجمع بين التقارب السعودي ـ اليمني ، و القطري ـ البحريني ، والمغربي ـ الجزائري . والمصالحة السودانية ، وجعل ذلك مقدمة للتقارب العربي العربي ثم إسقاطه على المسيرة السلمية أي الضغط على إسرائيل ، فإنه لا يصلح في الفهم السياسي ولو صادف الصواب.
لأن التقارب بين الدول في العالم يبحث على صعيد الموقف الدولي . فالتقارب من حيث هو وإزالة التوترات في الأقاليم . هو إستراتيجية أمريكية جديدة ، تخدم انفراد الولايات المتحدة في الموقف الدولي . ويأتي التقارب بين الدول العربية على هذا الصعيد ، مع ملاحظة خصوصية كل منطقة .
فالتقارب المغربي ـ الجزائري ، يبحث على صعيد إحياء الاتحاد المغاربي تمهيدا لعقد الشراكة الأمريكية المغاربية المرتقبة . والمصالحة السودانية ، و أزمة البشير والترابي ، تبحث على صعيد إقرار الوضع في منطقة البحيرات والقرن الإفريقي . وتنظيف صورة القذافي وإيران ، تبحث على صعيد إعادتهما إلى المجتمع الدولي ، تمهيدا لانفتاح أمريكا عليهما ، بعد أن حققت أمريكا الغرض من عزلهما سياسيا . ومن ذلك قطع الطريق عن المنافسين للاستثمار فيهما ، وبعد أن ضغطت الشركات الأمريكية على الإدارة الأميركية لفك الحصار الاقتصادي عنهما ، وتمهيدا لإعطائهما دورا جديدا يتلاءم مع المتغيرات الدولية . و كذلك الحال مع الانقلاب الذي حصل قبل مدة في ساحل العاج . لا يبحث على صعيد الصراع الأمريكي ـ الفرنسي، برغم وجود علاقة تقليدية للجنرال روبرت غي بفرنسا . ولكن صعيد القضية هو ما ترتبه الولايات المتحدة للقارة الإفريقية . حيث تفضل نقل السلطة في ساحل العاج لعميلها القوي الدكتور واتارا رئيس الوزراء الأسبق ، ورئيس الحزب الجمهوري المعارض ، والذي درس بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة منذ سنة 1963م إلى سنة 1972م وأشتغل بصندوق النقد الدولي ، مديرا للشؤون الإفريقية ، ونائبا للمدير العام سنة 1994م. والولايات المتحدة ترغب بإيصال واتارا للحكم في ساحل العاج بسبب درايته بالشؤون الإفريقية ، وعلاقاته الواسعة مع قادة إفريقيا ، بحكم توليه مناصب في صندوق النقد الدولي ، وتوليه لمنصب محافظ البنك المركزي الاقتصادي لدول غرب إفريقيا ، مما جعله الأنسب لتولي الحكم في ساحل العاج حسب المقاييس الأمريكية .
أما التقارب البحريني ـ القطري ، بعد أن أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها في قضية النزاع الحدودي حول بعض الأراضي والجزر بين قطر والبحرين ، فإنه يبحث على صعيد صياغة الخليج العربي . وهو أن الولايات المتحدة تسعى لتوحيد الموقف السياسي لدول الخليج تمهيدا لقلب الحياة السياسية في الخليج برمته ، والتحول به إلى الديمقراطية والتي ترفع شعار الدعوة لها دوليا . فتوحيد الموقف السياسي لدول الخليج بعد إزالة التوترات بين دوله ، سيفضي إلى خلق مناخ سياسي عام لنظام الحكم الذي ترمي الولايات المتحدة إلى إيجاده في المنطقة . فتصبح بعض الأنظمة كنظام الحكم في السعودية مرغمة ولو تدريجيا على التنازل عن خصوصيتها و الذوبان في المناخ السياسي العام للمنطقة .
وقد بدأت الولايات المتحدة لتحقيق ذلك عن طريق تفعيل الديمقراطية في الكويت المؤهلة أكثر من باقي دول الخليج لتطبيق النموذج الديمقراطي ، ثم تعميمه على بقية دول المنطقة . والملاحظ أن قطر بدأت تسير على نفس النهج ، حيث بدأت منذ فترة بانتخابات بلدية بمشاركة نسائية مكثفة تعد سابقة في منطقة الخليج . كما أن أمريكا تستخدم قناة الجزيرة الفضائية كأداة للتأثير في الرأي العام الخليجي ، وإعادة صياغة مفاهيم الناس فيه على أساس الديمقراطية . وهذا يقتضي استنفار الطاقات واستنهاض همم المخلصين من أبناء البلاد ، ومضاعفة الجهود ، لإعاقة المخطط الأمريكي القاضي بجعل الديمقراطية نهجا في المنطقة ، من خلال التركيز على كفر الديمقراطية ، وعمالة دعاتها من أبناء البلد ، وبعث قيم الإسلام الرفيعة في المجتمع .
2ـ أما القول بأن الصورة لم تتضح بعد حول أمير البحرين ، وملك المغرب وكذلك القول بأن الملك عبد الله تابع للإنجليز ، وأنهم لا يجرؤون على الوقوف في وجه المخططات الأمريكية في هذا الوقت على الأقل . فإن القرائن الراجحة تفيد بأنهم غارقين في المخططات الأمريكية إلى ذقونهم ، وأعمالهم السياسية كلها تنطق بانخراطهم في العمالة لأمريكا.
ولكن الذي يجعل الصورة غير واضحة حولهم ، هو بقاء التوهم بوجود دور للإنجليز في السياسة الدولية ، وتسلطه على الأذهان عند تحليل الأحداث ، خاصة التي كان يشارك فيها بقايا عملاء الإنجليز العريقين .
كما لم ينتبه البعض إلى تطور العلاقة الأمريكية ـ البريطانية تبعا لتبدل الموقف الدولي ، وخاصة بعد سنة 1991م وبعد مجيء حزب العمال البريطاني إلى الحكم في بريطانيا .
و من جهة أخرى ، يرجع عدم وضوح الصورة حول أمير البحرين وملك المغرب وملك الأردن ، لكونهم ليسوا عريقين في العمالة لأمريكا ولكون عائلاتهم من صنع الإنجليز ، ولكونهم جددا في الحكم و مبتدئين في الأعمال الخيانية ، ويبدو عليهم الحذر والخوف من غضب أمريكا ، وهم يرونها تلقي بعملائها في مزابل التاريخ ، مثل سوهارتو وعلي بوتو وضياء الحق ونواز شريف ، وغيرهم ، وهم يدركون أنهم في زمن القطب السياسي الواحد ، وليسوا في زمن آبائهم حيث تعدد مراكز القوى ، حيث تحاول كل قوة استقطاب العملاء لصفها ، وتضطر للمحافظة عليهم وحمايتهم من خصومها الدوليين ، بل ويدركون أن ثمن العميل ـ في ظل انفراد دولة واحدة بالموقف الدولي ـ رخيص ، ويمكن استبداله بأبخس الأثمان ، إن لم يكن بالمجّان .
أما الذي لا يدركونه فهو أن الولايات المتحدة تسعى لإنهاء الأنظمة الدكتاتورية التي تتناقض مع دعوتها للديمقراطية ، والتي ارتبطت بذاكرة الشعوب بالعبودية والظلم والقهر ، وأن أمريكا تسعى لإيجاد أنظمة تحظى برضى شعوبها عنها ، وأنها تقلل من الاعتماد على العملاء في المحافظة على مصالحها ، وتعمل على نشر قيمها ومفاهيمها عن الحياة للهيمنة على الشعوب واتقاء خطرهم على مصالحها ، وأنها تتظاهر لهم بالمودة من أجل طمأنة الجيل القادم إلى الحكم في باقي الدول العربية ، ولا يدركون أنها تعمل ببطء و خفاء لتقويض حكمهم ، تمهيدا لخلعهم ونسخ تاريخ أسرهم الضالعة في التآمر مع الإنجليز على مصالحها .
كما لا يدرك الحكام بأن النظام الجمهوري ، هو مسألة مبدئية لدولة رأسمالية كالولايات المتحدة ، لابد لها للدعوة له وفرضه على كافة دول العالم ، إن عاجلا أم آجلا ، فضلا عن كونه أضمن لأمريكا في الحفاظ على مصالحها ضد خطر الشعوب المتوقع بعد زوال خطر الدول المنافسة .
وهم كذلك لا يدركون العقلية التي توجه السياسة الأمريكية وتجعل مفكريها يخططون لتغيير الحكام عبر الهاتف للالتفاف على حركة الشعوب وإخمادها عن طريق تغيير الوجوه ، كما فعلت مع سوهارتو الذي تنحى عن الحكم بعد ساعات قليلة من تلقيه الأمر من أولبرايت عبر الهاتف ، كما أنهت حكم زروال قبل إكمال مدته الرئاسية بسهولة ويسر، والإتيان بعميلها بوتفليقة الأقدر على التعامل مع الأزمة الداخلية للجزائر ، وملف الاتحاد المغاربي .
3_ أما عن الإمارات ، فإن الراجح هو أنها تحولت إلى السير مع أمريكا بعد حرب الخليج ، ودل على ذلك أعمالها السياسية منذ حرب الخليج حتى الآن . والضربة المالية التي تلقاها آل نهيان في البنك الذي أنهار في لندن قبل سنوات وفضح علاقة آل نهيان بالإنجليز على صفحات مجلة الشاهد السياسي ، بالإضافة وإلى دعم الإمارات المالي للجزائر خاصة بعد تولي بوتفليقة الحكم ، وعزمها على الاستثمار بملياري دولار في الجزائر ، كل ذلك قرائن واضحة على تحول سيرها في خدمة المخططات الأميركية .
28/ذو الحجة/ 1421هـ
الموافق 23/ آذار/ 2001م
|